أخبار فنية

هل تأتون قليلاً... رقصة الإبداع على خشبة الموت

هل تأتون قليلاً... رقصة الإبداع على خشبة الموت

1679 مشاهدة

هل تأتون قليلاً... رقصة الإبداع على خشبة الموت

 

ملحق الثورة الثقافي

العدد : 727 ‏
الثلاثاء 8/2/2011
نذير جعفر

الإبداع هو الوسيلة الكبرى لمواجهة الموت. ذلك ما قاله ماركيز في رسالته الأخيرة إلى العالم، وهو ما يقوله عزيز نيسن أيضاً في مسرحيته: «هل تأتون قليلاً»،‏‏

 التي ترجمها عن التركية فاروق مصطفى، وقدّمتها فرقة الشهباء على مسرح مديرية الثقافة في حلب بإخراج مؤسّسها د. وانيس باندك، الذي سبق له أن أخرج مسرحيّات عدة باسم الفرقة نفسها قبل توقّفها منذ منتصف الثمانينيات، مثل: «سكان الكهف» لوليم سارويان، و«احتفال ليلي خاص لدريسدين»،‏‏‏‏

و«الدراويش يبحثون عن الحقيقة» لمصطفى الحلاّج، و«العائلة توت»لأسطفان أوكريني، و«اثنان فوق أرجوحة» لسالنجر، و«قطعة العملة» لفرحان بلبل، و«رحلة حنظلة» لسعد الله ونوس، و«الغزاة» لأغون وولف.‏‏‏‏

 النّص:‏‏‏‏

يتكوّن النّص من خمس لوحات، تؤديها تسع شخصيّات، هي: المعلّم ماتِه صانع آلة «السوبي» الموسيقيّة التي تشبه الناي، وزوجته زاني، وابنته جينو، وولداه شاري وميسا، وأجيره الأحدب بورنوك، والتاجر الثّري أفَّر، وجاره بيناي مع زوجته آشي.‏‏‏‏

يبدو المعلّم «ماتِه» فناناً مولعاً إلى حدّ الجنون بتطوير آلة "السوبي"، لتكون أفضل من الآلة الأصل التي صنعها المعلم «آير» قبل أربع وثمانين سنة. ومن هنا يواصل العمل ليل نهار مع صانعه «بورنوك» وابنه الصغير «ميسا»، متمنياً أن يكون اليوم خمساً وعشرين ساعة لعله يستطيع أن يضع لسان الصوت في مكانه الجديد ويضبطه، فيحقق بذلك حلمه الذي يخلّده. ولذلك نراه يردّد باستمرار أمام زوجته المتذمّرة: «سوف يستمع الجميع إلى الأصوات المنبعثة من سوبياتي.. سوف يعرفونها من بعيد. وسوف يحارون ويقولون كيف صنعها. فكّري زاني. سوف يبقى صوتي على وجه الأرض. أليس جميلاً يا زاني؟ أنا غائب وصوتي حاضر. أنا ميّت وصوتي عائش..».‏‏‏‏

بهذا الإيمان بقيمة الفن ودوره يتمسّك «ماتِه» بحلمه، فيخلص له على الرغم من الفقر الذي يعيشه، والمعاناة التي يكابدها، ويرفض بيع "السوبيّات" للتاجر الثري «أفَّر»، غير آبه بتوسلات زوجته «زاني» التي تحلم بتغيير أوضاعها، وببطالة وطيش ابنه الكبير الرياضي المنشغل بتنمية عضلاته! وبطلبات ابنته المراهقة الغارقة بأمنياتها المتقلّبة ما بين الرقص، والخياطة، وبيع الجوارب! يعزّيه في ذلك إخلاص ابنه الصغير ميسا وصانعه «بورنوك» للمهنة التي يحبّها.‏‏‏‏

إن الصراع يبلغ ذروته عند «ماتِه» عندما يقف متردّداً في المرّة الثانية بين الموافقة على بيع «السوبيّات» للتاجر «أفَّر» أو الرفض. وفي اللحظة التي يقرّر فيها البيع، والكفّ عن حلمه في تطويرها، يستدعيه ملك الموت بندائه الذي استدعى فيه من قبل زوجته «زاني»: «هل تأتون قليلاً»؟ فيستعدّ لتلبية النداء فيما يقف كلٌّ من ابنيه «ميسا»، وصانعه "بورنوك» ليثنياه عن ذلك، لكنه يمضي إلى قدره مخاطباً إياهما: "أنتم ستضبطون لسان الصوت في مكانه يا معلّم ميسا، أنتم يا معلم بورنوك.. دون أن تسرقوا من أنفسكم شيئاً.‏‏‏

دون أن تنهزموا أمام أمثال «أفَّر».. دون أن تعتقوا أو تنتهوا، دون أن تتعبوا أبداً، سأدوم وأستمرّ فيكم، أنتم المعلمون.. سأعيش فيكم".‏‏‏‏

إن رسالة عزيز نيسن من خلال هذه المسرحية موجّهة إلى كل المبدعين الذين يعيشون الصراع الذي عاشه بطله «ماتِه» بين شفافية الحلم وقسوة الواقع.

وهي تؤكّد على نبل الفن ومقاومته للموت، وعلى ضرورة أن يترك الفنّان أثراً إبداعياً جمالياً يؤثّر فيمن حوله، ويحيا فيه من بعد موته، وأن يتشبث بإبداعه، ولا يضعف أو يساوم عليه تحت وطأة الحاجة وإغراءات المال، حتّى لا يفقد مسوّغات وجوده ويصبح في عداد الأموات.‏‏‏‏

لم يقدّم النّص شخصيّات نمطية ذات بعد أحادي، بل قدّم شخصيّات مركّبة نامية، متحوّلة، أقرب إلى طبيعة النفس البشرية وتقلبّاتها ما بين الخير والشرّ، والقوة والضعف، والإقدام والإحجام. فالشخصيّة المحورية: "ماتِه" القوي، المثابر، المتمسّك بحلمه، والمصرّ على المضي في طريق الإبداع وتطوير آلة «السوبي»، يضعف أخيراً برحيل زوجته، واشتداد ضغوط الحياة عليه، فيمضي معلّقاً أمله على من سيحمل الراية من بعده.

 والزوجة "زاني" الصابرة المخلصة تحتجّ أحياناً، وتصرخ، ثم تهدأ، وما بين اليأس والأمل تستسلم أخيراً للموت الذي تجد فيه خلاصها! والابنة «جينو» لا تستقر على حال بحكم مراهقتها، فتبدو متقلبّة بين لحظة وأخرى. أمّا التاجر الثريّ «أفَّر» فهو الآخر ينكث بعهده ويتخلى عن شراء السوبيات بالثمن الذي حدّده في البداية، بعدما أدرك نقطة ضعف «ماتِه».

 وتكاد شخصيّة الابن «شاري» لا تفارق نمطيتها، شأنها شأن الشخصيتين الثانويتين: «بيناي» و«آتشي»، فيما تكشف شخصيّة «ميسا» عن شغف بالعمل، وطبع رقيق في معاملة الناس، وإن كانت لا تخلو من صرامة حيناً وطرافة حيناً آخر. وكذلك الأحدب «بورنوك» الذي يكتم مشاعر حبه الدفينة نحو جينو ولا يستطيع البوح بها نظراً لشعوره بالدونية، فيعوّض ذلك بعمله الدؤوب في صنع «السوبيات».‏‏‏‏

إن كلاً من تلك الشخصيّات لا تخلو من أبعاد رمزية أيضاً تلخّص بهذا القدر أو ذاك بعض نظرات عزيز نيسن العميقة للإنسان والحياة. فيبدو رحيل "ماتِه" و«زاني» رمزاً لجيل قديم أدّى دوره وانتهى. فيما يحتل مكانهما "ميسا" رمزاً للجيل الجديد الذي عليه أن يعرف حقّه ويتابع طريقه.‏‏‏‏

العرض:‏‏‏‏

اختزل المخرج اللوحات الخمس إلى مشهدين مسرحيين، يدور الأول منهما في القبو الذي يسكنه «ماتِه» وأسرته، ويدور الثاني في المسكن الجديد الذي انتقلوا إليه مع الإبقاء على الأثاث المنزلي نفسه دلالة على الوضع الطبقي والمعيشي الذي لم يتغيّر. وبهذا الاختزال سرّع الإيقاع الدرامي، ونأى عن الرتابة المملة، من دون أن يؤثّر سلبياً على السياق العام للحدث والشخصيّات، أو على الفكرة الجوهرية للنّص التي أشار إليها المخرج في تقديمه: «هل تأتون قليلاً؟ لعزيز نيسن.. ليست دعوة للموت... بل إلى الحياة. فقبل أن نرحل عن هذا العالم، يجب أن نفعل شيئاً ما.. أي شيء جميل، يترك أثره على الناس، ويستمر فيهم».‏‏‏‏

ومع أن المشهدين يجريان في فضاءين مختلفين أولهما: «القبو»، وثانيهما

 الطابق الأرضي، إلا أن التباين بينهما لم يكن ظاهراً للمتفرّج.

 وكان من الممكن التعبير عن ذلك برؤية بعض الأقدام المارة عبر النافذة الخلفية، للإشارة إلى أن السكن الأول هو قبو، كما جاء في الإرشاد التوضيحي للمشهد. وذلك يعمّق الإحساس بمعاناة «ماته» وأسرته. وتجدر الإشارة إلى أن تحريك الديكور بين المشهدين كان ينبغي أن يتمّ في حالة تعتيم كامل للخشبة، وليس في حالة تعتيم جزئي كما تمّ تحت أنظار المتفرّجين.‏‏‏‏

وقد قام بأدوار الشخصيات كل من: أسامة عكام «ماتِه»، وأحمد مرعي «بورنوك وهيفي حسين «زاني»، وعابد ملحم «شاريه»، ومحمد ملقي «ميسا»، وهديل تنبي جينو»، وحسان الفيصل «أفَّر»، وحسام خربوطلي «بيناي»، وريم محمد»آشي».‏‏‏‏

وتألق هؤلاء بتلقائيتهم، وأدائهم الحركي، فيما تراوح أداؤهم الصوتي ما بين إلقاء مؤثّر متناغم يحرص على مخارج الحروف وجرسها وسلامتها وإيحائها «أسامة عكّام»، وأداء متسرّع أحياناً لا يخلو من أخطاء «هديل تنبي» على سبيل المثال.‏‏‏‏

وفي حين تم تغيير طفيف على ملابس «أفَّر» فإن باقي الشخصيّات بقيت على حالها طوال العرض، مع تغيّر المكان والزمان والمشهد! وكان لا بدّ من تغيير ملابس «جينو» على الأقل كونها مراهقة، ومن غير المعقول أن تبقى كما هي على الرغم من الإشارات العديدة إلى تقلّب مزاجها ورغباتها وأمنياتها!‏‏‏‏

وبدا العرض بشكل عام متناغماً في دلالته التعبيرية إلقاءً، وحركة، وإيماءً، وإضاءة، وديكوراً، ومؤثّرات صوتية، وموسيقا. وهو ما شدّ المتفرّجين، وزجّهم في اللعبة المسرحية بوصفها فرجة ممتعة وحواراً خفيّاً بين ممثلين وجمهور تسهم فيه مختلف العناصر السينوغرافية.‏‏‏‏

إن العرض جاء معمّقاً لفكرة النّص، لا عالة عليها، أو انتقاصاً منها، أو تحويراً لها. وبذلك أخلص وانيس باندك لروح العمل المسرحي مع إضفاء لمساته الجمالية ورؤيته الفكرية الخاصة التي تجلّت في اختصاره لبعض الحوارات التي لا تخلو من تكرار، وفي التركيز على شخصيّة "ماتِه"

 ووريثه «ميسا» بوصفهما جيلين مختلفين وإن كان أحدهما يكمل الآخر، وفي حرصه على إشاعة روح المرح والدعابة والسخرية أحياناً التي برع في تمثيلها ريم محمد في دور «آشي» وأحمد مرعي في دور «بورنوك»، وبذلك أضفى باندك أبعاداً جمالية وتعبيرية جديدة على دلالة النّص.‏‏‏‏

ويكاد ينتمي العرض في عناصره السينوغرافية إلى ما يسمّى بالمسرح الفقير، حيث الكلفة القليلة في الملابس والأثاث، والديكور البسيط الدّال والموحي، والزهد في الإضاءة، والمؤثّرات الصوتية، وكلها اجتهادات تعبّر عن تعاون روح الفريق الفني الواحد في العمل المسرحي. هذا الفريق الذي يتمثل بالإضافة إلى ما سبق بكل من:

 محمود الساجر «ديكور وأفيش»، ووضّاح كوريني «تأليف موسيقي»، وعمّار جرّاح «إضاءة» ، وإياد الشحادة «مساعد مخرج»، ونور كرو «إدارة منصّة»، وناجي الأحمد، ومحمد علي إبراهيم «تحريك ديكور». ولكل من هؤلاء تجاربه المعروفة في هذا المجال.‏‏‏‏

إن مديرية الثقافة بتوجهها الجديد نحو إحياء المسرح في مدينة حلب عبر مديرها المشرف العام على هذا العرض غالب البرهودي، تعيد إلى الأذهان ما كانت عليه الحركة المسرحية والثقافية في السبعينيات، حيث مسرح الشعب، والمسرح الجامعي، والمسرح العمالي، والمسرح الجوال، إلى جانب النادي السينمائي، والملتقى الأدبي الجامعي السنوي، والندوات الفكرية والنقدية، والأمسيات الشعرية والقصصية، التي نأمل جميعاً في أن تعود كما كانت وأفضل، من دون أن نستسلم للمثبطات التي يحلو للبعض أن يجعل منها مشجباً لعجزنا لا غير.‏‏‏‏

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية