قالت الصحف

وليد معماري .. عشاءات سرية....

وليد معماري .. عشاءات سرية....

1892 مشاهدة

عشاءات سرية 


تشرين - آفاق
السبت 26  شباط 2011
بقلم : وليد معماري

سافرت الريشة، وسرقت بعض الألوان.. وبقيت لوحة القماش بيضاء، وعاتبة،  وغاضبة.. أما المنصب الخشبي، فظل شامخاً، وغير قابل للكسر، أو الانحناء..

ثمة عاشق كان اسمه فاتح  المدرس، يطوف بجسده هنا.. يسكب من روحه أناشيد ملونة.. ويصنع وجوه نساء مرصعات  بالحزن والكبرياء.. وعصافير لها أجنحة من حرية.. وأطفالاً يختزلون وجع الوقت  والحنطة.. وأرضاً من تراب وصخر وعطش وبنفسج وضجيج، لا يعلن عن نفسه إلا في مغارات  العشق.. ‏

يتركه مرسمه، وينسى متعمداً  كوة في الجدار المطل على شارع، أو على زمن.. وحين تنام المدينة، ويستيقظ الصمت،  تهرب النساء، والعصافير والأطفال وسنابل القمح والبيادر والحقول وأشجار الزيتون  والفستق الحلبي، والرمل، وضفة النهر، وتتحول إلى يعاسيب مضيئة، وتغادر المكان إلى  غيوم بعيدة.. تغتسل بالغيوم، وتتابع رحلة معراجها.. وتصير نجوماً، أو كائنات  متوحشة، ومتوحدة، تفضح عتمة الراهن، وتحرق أشواك الترهل والتفاهة، وزبد الجفاف.. ‏

نادرون أولئك الذين يسكنون  روحك من أول لقاء.. وكان فاتح المدرس من أوائل من سكن روحي، وبقي فيها مثل زهرة  أقحوان... وعاد لا ليتفقد مسكنه.. بل ليزرع على شرفة الروح عود نعنع بري... وقال  لي: ستؤلمك جروحك، وتُدمى قدماك الحافيتان من حجارة الدروب.. فاخلع قدميك، واتبعني  بسفنك، إن كان لديك سفن، نحو موانئ ليس فيها ماء.. ‏

يترك فاتح باب مرسمه  موارباً... أهبط بضع درجات مؤدية إلى القبو المنسي تحت مجلة أسامة، ومديرية  المسارح.. يسبقني القلب إليه.. وتسبقه إلي رائحة عبقة من الصفاء والبساطة.. وأحتار  وأنا بين يديه، هل أقرأ ملامح الإبداع في خطوط وجهه، وسنابل القمح المشرئبة بين يدي  أمه؟.. أم أقرأ أوراقها المجنونة المعلقة فوق الجدران.. وكلماته الحادة مثل نصال  سيوف دمشقية.. الناعمة مثل حرير سمرقند.. المنمنمة مثل سجاد أصفهان؟!.. ‏

ثمة فوضى في المكان،  وازدحام... رمانة يابسة تستكين فوق خشب البيانو.. مدفأة عتيقة تحمل إبريقاً من  فخار.. بساط من شعر الماعز ممدود لمرور قوافل من الفقراء والمضطهدين وثوار  بوليفيا... وفيما بعد ثوّار ليبيا.. ومرة بعد مرة أتلفت باحثاً عن جنيات صنعن مثل  هذه الفوضى المنظمة، وأكتشف أن الجني الذي تفصلني عنه منضدة خشبية لها لون الحرائق،  هو الذي اقترف الجحيم..

 لم يكن مرسمه، أو محترفه،  كما يُدْعى، مرسماً أو محترفاً.. بل كهفاً وثنياً يبحث عن آلهة، يحاول فيه ممارسة  طقوس توصله إلى المطلق عبر النحت في صخور بازلتية.. وكنت على يقين بأنه على صلة  بالمطلق، وقد أوصلتني لوحاته إليه، فيما كانت أصنامه تنام في أماكن سرية، بينما  قديسوه يشاركونه الجلوس حول مائدة من عشاءات سرية..‏ 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية