المهرجانات في المملكة العربية السعودية

 وقفة عند نقطة آخر السطر

وقفة عند نقطة آخر السطر

1868 مشاهدة


النوايا الحسنة لوحدها لاتصنع واقعا في أي مجال مكان لكنها شرط رئيس لصناعة الواقع الحلم متى كانت الرؤية واضحة وتوفر شرط الإيمان العميق بالعمل وتصدى للمهمة أفراد يملكون قدرات خاصة والمسرح لايشذ عن هذه القاعدة كثيرا
الورشة المسرحية بالطائف أتخذت من الرؤية الواضحة وقدرات الشباب المؤمنين بالمسرح سلما صعد بها إلى قمة المشهد المسرحي وحول تلك الورشة إلى معمل حقيقي لإنتاج أفكار مسرحية وأعمالاً أستطاعت تجاوز المحلية إلىآفآق عربية ودولية بحصد جوائز متعددة على أكثر من مسرح عربي ودولي رغم الإمكانات المادية الهزيلة والواقع المتردي للمسرح وكان لفهد ردة الحارثي وأحمد الأحمري وعبدالعزيز العسيري وبقية زملاؤهم دورهم الفاعل في خلق هذا الواقع الذي يجعلنا نتجرأ فنصف ورشتهم بالظاهرة الكونية التي لاتتكرر كثيراً ،
لو أردنا هنا توصيف وسرد مايميز الورشة المسرحية بالطائف سنجدأنفسنا أمام قائمة طويلة لكن من ضمن أبرز مايميزها ((إصطياد الفكرة )) والعمل على الفكرة حتى يكتب لها النضج ،
المسرح دوما هو كما نعتقده كل شيء فيه صعب ومرهق وغير ممكن متى نظرنا إليه من هذه الزاوية سنجده أمامنا كذلك ولكن متى أردناه سهلا ومبسطا وأمنا بهذه الفكرة سنجده كذلك وهذا ماتلمسه لدى ((جوقة ورشة العمل المسرحي بالطائف ))
من قدر له مشاهدة العمل المسرحي الآخير للورشة الموسوم ب((نقطة آخر السطر )) سيؤمن أن المسرح ((فكر قبل أن يكون خشبة )) و((رؤية قبل أن يكون إمكانات مادية )) و((إيمان ورسالة قبل أن يكون أي شيء آخر ))
في نقطة آخر السطر ستدخل كمشاهد ((مختبر العمل المسرحي )) وستدلف إليه بدءً من عتبته الأولى ((عنوان النص )) وستلحظ أن هناك إنفتاحاً واعياً على الفكر المسرحي العالمي وستجد كثير من نظريات المسرح تهطل كحبات المطر أمامك
فالعنوان مثير وله دلالته والفكرة تستلهم الكثير من نظريات المسرح وتجسدها
إصطياد فكرة تحويل الهامش إلى متن ((فكرة طليعية من حيث الجدة والبعد عن النمطية وتجاوز المألوف )) وهكذا تحولت نقطة آخر السطر بداية ومنطلق لعمل مختلف بنى عليها فهد ردة الحارثي عمله وعنونه بها فتحولت النقطة المهملة إلى عنصر رئيس ومتكأ لعمل مسرحي وفكري طليعي ((ورشة الطاولة التي هي عرف مسرحي معتاد لم يفطن أحد إلى جعله حدثاً على الأقل على المستوى المحلي فكان العرض هو تجسيد لتلك الحالة المسرحية التي تكتسب أهميتها من كونها خطوة مهمة نحو إتقان العرض وأحد أهم الخطوات التي تمر بها العروض لكنها تتحول إلى ممارسة مهمشة بحكم الإعتياد إصطادها فهدر ردة وأحمد الأحمري وسامي الزهراني بتمكن فجعلوها كل الحدث بعد أن كانت جزءً منه لا أكثر ))
تبدأ الأحداث بأن يرتص الممثلان أمام الطاولة التي تحمل الأوراق على كرسيين متجاورين إستعداداً لبدء تدريبات الطاولة المعتادة ليفاجأ جميع المتواجدين بأن هناك عطل في جهاز العرض المنصوب أمام خشبة المسرح
إظلام المكان التام يضطر الممثلين والحضور لإضاءة المكان بمايتوفر من أدوات ((جوالات - ولاعات السجائر ونحوها )) لم تكتمل الحيلة بعد فسيستمر إصلاح العطل وقتاً طويلاً بعض الشيء يتطوع بعض الحضور دون وعي أو إدراك لمشاركة المنهمكين في إصلاح العطل الإفتراضي لجهاز العرض ((كل ذلك تحقيقاً لغاية مسرحية ((إشراك المشاهد العادي فعلياً في صلب العمل )) وذلك عن طريق حيلة ذكية مخاتلة تنقل جزءً مما قد يحدث في عالم المسرح الحقيقي في إحدى مراحلة وتمرر نظريتها المعرفية التي تنادي بتحويل المتفرج إلى مشارك ومهموم بل أن أرتو طالب بجعل مرتادي المسرحي يشعرون بألم لايقل عن ((ألم مرتادي عيادة الأسنان لخلع الضرس )) وهنا في هذا العمل محاولة طليعية لجعل المشاهديعيش تلك اللحظات وإن بدرجات متفاوته
أتذكر كيف أن مرافقي ((بعد العرض أطالا الجدل حول مشكلة جهاز العرض هل كان خللاً حقيقياً أم مفترضاً لإقحام المشاهد في لجة الحدث المسرحي )) وطال النقاش ولم يحسم حتى أنهما فكرا في العودة لسؤال ((فهد ردة عن هذا الموضوع ))
ولذة التأويل غاية لكل الفنون ومختبر حقيقي لكفاءة المشاهد والعمل في آن واحد لكنها في المسرح أكثر إمتاعاً وأكثر لذة والأجمل أن يستطيع عمل ما خلق هذه الحالة في ذهن المشاهدين وإشراكهم دون وعي منهم في الأحداث المتعاقبة التي يقدمها الممثلون على خشبة المسرح
تتوالى الأحداث بشكل عادي بعد إصلاح العطل والذي يشارك في إصلاحه الممثلين الأثنين بنزولهم من على الخشبة فتصبح طبيعية معتادة تحدث في أي مكان تجرى فيه بروفة طاولة أو ورشة طاولة وأمام ضعف الحركة التي يفرضها الحدث المسرحي نفسه والتي تبنتهي بعد برهة بسيطة من بدء العرض فبعد مجموعة الحركات التعبيرية والبانتومايم من الطبيعي أن تطغى لغة القراءة والسرد فكان لابد من لجوء المخرج إلى مايجعل المتلقي يبقى متواصلاً مع الحدث فيكون الضوء والصوت والسينوغراف هم الوسائل المعينة له على خلق حالة التواصل المرغوبة عن طريق الإضلام التام وإستخدام الملابس البيضاء لعنصري العمل لإحداث تباينم ضوئي يملأ الرؤية البصرية للمتفرج فيما تأتي الإضاءة المسلطة على الممثلين المنبعثة من جهاز العرض نفسه لكنها ليست تلك الإضاءة المتعارف عليها بل جاء المخرج المبدع عبدالعزيز عسيري بحيلة إخراجية جميلة أستقاها من الضوء السينمائي السريع الذي تشكله الشاشة عادة أثناء تشغيل جهاز فيديو به عطل فني فتأتي الصورة على شكل خطوط سريعة الومض يتخللها خطوط عرضية سوداء وتتميز بحركتها الدائبة وعدم تموضعها وفي أعلى الزاوية اليمنى للشاشة تأتي عبارة ((
rec)) والتي تعني تسجيل في إشارة إلى أنه يجب أن توثق ورشة الطاولة بالفيديو حتى يراها الممثل لاحقاً ويتعرف على أخطاءه في الأداء الصوتي
لينتهي العرض الذي لايتجاوز مدة عرضه دقائق عشر لكنه ينوء بحمولات متعددة وبفكر مسرحي مدهش فوسط تغييب للكثير من العناصر المسرحية التي تحولت أصناما ومعيقات للعروض المسرحية وجعلت المسرح مكبلاً بقيود الأطر النظرية وقد نجح العرض المسرحي ((نقطة آخر السطر )) في أن يحطمها وأن يقدم وجبة مسرحية شهية سائغة أستطاع فريق العمل من خلاله إحلال أفكار مسرحية بسيطة لكنها عميقة ورائدة ((هذه الورشة المسرحية )) في كل مرة تدهش المتابع بفكرة تغوص في جدتها وتقدم لنا لمحات مسرحية متفردة تشعرنا أن ((معاهد الفنون وضعف الدعم المادي وغياب التنظيم الحقيقي للمسرح وتنظيماته محلياً)) هي حجج يمكن أن نتجاوزها وتجعلنا نؤمن وليس فقط نستبشر أن لدينا مسرحا سعودي النكهة والملمح والفكرة والتنفيذ وتدلل على أن المسرح السعودي فن متجدد متى تعاملنا معه على أنه ضرورة ثقافية وليست نقطة تقع آخر السطر.

نقطة أخر السطر – رؤية – ناصر العمري

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية