دراسات أدبية

آلان باركر   الحريّة تسكن أغلب أفلامه

آلان باركر الحريّة تسكن أغلب أفلامه

407 مشاهدة

آلان باركر   الحريّة تسكن أغلب أفلامه ...

الناقد #أنور _محمد ناقد فني سوري

مقالي في "ضفة ثالثة" عن السينمائي البريطاني آلان باركر الذي رحل:

آلان باركر.. الحريّة تسكن أغلب أفلامه

سينما

المُخرج السينمائي #آلان باركر

المُخرج السينمائي البريطاني آلان وليام باركر (1944- 2020) كاتب سيناريو ومنتج ومُخرج وممثِّل سينمائي بريطاني. بدأ حياته مخرجًا لأفلام الإعلانات التجارية، ومن ثمَّ تحول إلى الإخراج السينمائي. من أفلامه: قطار منتصف الليل، الشهرة، الجدار، مسيسيبي تحترق، الالتزامات، مرحبا بكم في الجنة، الملاك الأزرق، الطريق إلى ويلفيل، الطائر، حياة ديفيد غيل 2003 وهو آخر أفلامه. حصدت أفلامه تسع عشرة جائزة بافتا، وعشر جوائز جولدن جلوب، وعشر جوائز أوسكار.

تسكن الحريَّة أغلب أفلام آلان باركر، فالنزاع بين الإنسان الفرد؛ بطلًا أو نصف بطل أو ضحية، وبين الممنوع؛ هو في السعي ليعيش حالة عاطفية طبيعية. ففي فيلم "قطار منتصف الليل" Midnight Express 1978 نحن مع عالمٍ لا قانون فيه، على الإنسان أن يخوض حربًا ضدَّ القانون الذي ظلمه- قانون لا يحقِّق العدل/ العدالة. نلاحظ أنَّ باركر لا يشتغل بفيلمه على نظرية الحرية تساوي الجريمة بل أنَّ الجريمة هي من يحتمي بها القانون، عندما يُقبض على سائح أميركي قبل صعوده الطائرة في مطار إستانبول ومعه كمية من المخدرات، فيُودَعُ السجن وباسم القانون يُعذَّب ويكاد يُصفَّى. الفيلم سيناريو أوليفر ستون، بطولة براد ديفيز، جون هرت، ترين ميراكيل، نوربيرت ويزر، مأخوذ عن قصة حقيقية للمؤلِّف بيلي هاينس يؤدِّي دوره براد ديفيز، حائز على جائزتي أوسكار إحداهما للمخرج، والثانية لكاتب السيناريو؛ وهو الفيلم الأكثر جرأة في طرحه معنى أن تصير مجرمًا بالصدفة لتتعرَّض لعقوبة؛ لتعذيبٍ دموي مُمنهج يرمي بك في المصح العقلي للسجن، والجريمة تهريب مخدرات، وليس اغتيال رئيس أو زعيم أو حاكم. تعذيب وحشي يكاد يدمِّر روحَ وجسد السائح، وبالرشوة، في إشارة إلى فساد إدارة السجن/ السجون، وبعد عدَّة محاولات فاشلة، يهرب من السجن ويعود إلى أميركا ليروي الفظائع التي عاشها بين أيدي السجانين الجلادين الذين يتعاملون مع المُتَّهم كضحية فيما هم الأبطال. باركر يكسر في هذا الفيلم المليء بالصراعات الأحداثَ النمطية، فيذهب إلى توليد أفعالٍ تنمو حسب منطق ذاتي، فنرى انحرافات الجلادين كما الضحايا. إنَّها ظاهرة من طبيعة كونية فيزيائية وبيولوجية، فكما التقدم والتطور، هناك النكوص والتهديم.

 فيلم "مسيسيبي تحترق" 1988، وهو من بطولة جين هاكمان، ويليام دافو، فرانسيس مكدورماند، براد دوريف، آثر لي إيرمي، حائز على جائزة الأوسكار لأفضل تصوير سينمائي. الفيلم يصوِّر اختفاء ثلاثة ناشطين مَّمن يدافعون عن الحقوق المدنية في بلدة بضواحي ولاية مسيسيبي، ذهبوا لتعليم السُود كيف يمارسون حقوقهم في الانتخابات فيتمَّ قَتلُهم، وينجو القَتَلة من العقاب بسبب تدخل أعضاء في جماعة "الكو كلوكس كلان" العنصرية. يتولى اثنان من عملاء المباحث الفيدرالية البحث عن المخطوفين؛ أحدهما (آلان وارد) يجري تحرياته وفقًا للقواعد والقوانين، أما زميله (روبيرت أندرسون) فكان ينحرف عن القواعد لاستكمال البحث. يفشلان، ثمَّة من يعرقل عملهما، فتتصاعد الأحداث وتبدأ هجمات البِيض ضد المواطنين السود. الفيلم يثيرُ صراع المواطنة في أميركا: الأبيض ضدَّ الأسْوَدْ، لا حقَّ للأَسوَد، والحق كل الحق والحقوق للأبيض. باركر يفتح ملف التمييز العنصري/ العرقي، الذي ما زال مفتوحًا؛ لنتذكَّر مصرع جورج فلويد، مواطن أميركي أسود البشرة، على يد شرطي في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا في أيار/مايو الماضي 2020، ورأينا في فيديو شُرطيًا، راكعًا فوق رقبة فلويد (46 عامًا)، محاولًا تثبيته، فيما كان الرجل يردّد "لا أستطيع أن أتنفس، أرجوك لا تقتلني"، وقَتَلَهْ. وكأنَّ العالم فيلم قبيحٌ مهما بدا جميلًا.

فيلم "الجدار" 1982 بطولة بوب جيلدوف في دور بينك، كيفن ماكيون، دافيد بينجهام، سيناريو وكلمات وغناء روجرر واترز، كريستين هارجريفز، إليانور ديفيد، بوب هوسكينز وآخرين، تصوير بيتر بوزو، والرسوم المتحرِّكة جيرالد سكارف، موسيقى وأغاني فرقة الروك الإنجليزية بينك فلويد، يضعنا في فضاءات؛ أماكن وحيِّزاتٍ الصورةُ فيها ذات بُنية أركيولوجية، معمارية. غاص باركر في أعماق الذات الإنسانية، اخترقَ عوالم شخصياته وخاصة بطله الذي كان محور الفيلم. فما شاهدناه ليس قصصًا؛ أغاني خرافية؛ هو وقائع، رؤيا فلسفية لأرضِ نعمِّرها بقيم الجمال، ثمَّ تأتي الحروب؛ كانت عسكرية كما تخيِّلها بطل الجدار، أو اقتصادية أو ثقافية، فتحيلها إلى يباب، وقد سمَّدتها عقلية آلهة الحروب بدماء البشر بصفتهم ضحايا غطرستهم. الفيلم مرثاة؛ صورة وأغنية ورسوم متحرِّكة وموسيقى، نرى فيه وجهنا وقفانا، نرى حياةً مُتخيَّلة لكنَّها واقعية مُعاشة، يعمل فيها المُخرج آلان باركر على هزِّنا هزَّةً ثقافية، فنحن لا نعيش في غابة، ويجب أن تتقهقر وتتصدَّع كل الحصون والجدران العقائدية، أكانت سياسية أو دينية، وعلى أنغام الموسيقى والغناء والرقص والرسوم المتحرِّكة، كأنَّنا في واقع فوق الواقع- سورياليزم. فكفى فكرًا أو تفكيرًا تنويميًا؛ آلان باركر يدفع مُشاهديه ليمارسوا النقد، أو ليفكِّروا تفكيرًا نقديًا، فيفكُّوا قضبان/ جدران الحبس البسيكولوجي التي تربط وتجنزر الإنسان فلا يعيش إنسانيته؛ حريَّته. الفيلم مليء بإشارات العنف، والعنف المصفى، وهو يسردُ حياة طفل يتذكَّر موت والده في الحرب العالمية الثانية وهو يدافع عن جسر "أنزيو" – كأنَّ باركر يقول لنا: لقد ضحكَ عليه أمراءُ الحرب على أنَّه يدافع عن الوطن، فيما هو يُدافع ويموت عنهم- فتتولى والدته تربيته، فنرى صورًا، رسومًا متحرِّكة عن حربٍ كان وقودها البشر فماتوا مجَّانًا. ويستمرُّ شريط الذكريات، ومع كل ذكرى، وتذكُّر، وتخيُّل من مثل أن يرى نفسه زعيمًا سياسيًا في حزب يُجبر أعضاءه على أن ينصاعوا له، نرى رسومًا متحرِّكة في صورٍ مُرعبة، يصير الأنصار مطارق تمشي كأنَّهم جيشٌ يبتلعون الناس، والزهور تمسي حيوانات غريبة تأكل بعضها، والناس يمشون كقردة، لكنَّه الجدار، وكأنَّ بينك مثل مسخ كافكا، صورٌ؛ لقطاتٌ سوريالية، مدرِّسُون يُلقون الطلاَّب في مفرمة اللحم، الطلَّاب يردُّون بحرق المدرسة، ومن ثمَّ يرمون مُعلِّمهم في النار. ثمَّ يتذكَّر ويتذكَّر زوجته التي خَبِرَ أنَّها تخونه. ثمَّ يسترجع ويسترجع، ويرجع بينك إلى غرفته بالفندق وبصحبته إحدى المعجبات فتضايقه، ويقوم بتكسير كل موجودات غرفته ويدخل في هذيانٍ عنيف ما بين الخيالي والمُعاش، فتأتي أغنية Outside the wall التي تُذكِّره بحجارة الجدار، فيجن ويقوم بحلق شعر جسمه. كأن آلان باركر يكتب قصيدة يلعن فيها النظام الرأسمالي الذي حوَّل الإنسان إلى (شيء)؛ مرَّةً صهباء جذَّابة، ومرَّاتٍ فردة حذاءٍ متهرِّئة، وبينك يتخيَّل نفسه وهو طفل يمشي بين خنادق العساكر، ثمَّ والناس وقد تجمهروا في محطة القطار يطالبون بعودة المُحاربين، فكفى قتلًا، كفى استهلاكًا لآدمية الإنسان باسم الأوطان والأقوام والأديان. حروبٌ تُحرِّضُ على استهلاك اللحم الآدمي والدم الآدمي، فنرى بينك مُخدَّرًا؛ من المُخدرات أو من قسوة وهول الفاجعة التي أصابت الناس، وهم يُساقون كما الأغنام إلى مصائر يرتِّبها أرباب الحروب والمجاعات، ثمَّ يدخل في حلم يرى نفسه ربًّا/ ديكتاتورًا يقود أتباعه ويهاجم الناس إلى أن يصرخ: توقَّف، ثمَّ يأمر بهدم الجدار، ونرى أطفالًا ينظفون بقايا الحطام فيما طفلٌ يُفرِّغ زجاجة "مولوتوف" من محتواها وينزع منها الفتيل، لينتهي الفيلم مع أغنية Outside the wall.