قصة قصيرة

ألف سردة وسردة..النحيف...السمين...بقلم ..لقمان دبركي...

ألف سردة وسردة..النحيف...السمين...بقلم ..لقمان دبركي...

3570 مشاهدة
ألف سردة وسردة.
النحيف

يبدأ النحيف حياته الفنية في الطفولة وهو يأكل الكفوف على مائدة الطعام كي يأكل ويسمن، كما يبدأ الجيران بالتدخل في حياته أمام أهله السعداء بهذا التدخل كي يعلف أكثر ويسمن، فهذا ينصحه بأكل الخبز اليابس، وذاك ينصحه بالإكثار من الوجبات، وآخر ينصحه باللحوم والدهون، وآخر أفهم ينصحه بحبوب فاتح الشهية، فهو الممصوص، وهو الضعيف، وهو صاحب العظام البارزة التي يستعر الأهل منها خجلاً، وما إن يقطع الأهل الأمل من هذا الولد السنكوح فإنه يكون قد بلغ سن المراهقة، وبدأت خيالاته بجسد أقوى وأسمن تتكاثر، فتبدأ ورشة جديدة في حياته، ويبدأ بالذهاب إلى نوادي كمال الأجسام كي يلعب الحديد ويأكل كل ما في البراد ويتابع الوصفات بشرب الموز مع الحليب من عند أبو شاكر والبيض النيئ كذلك، ولكن الملل لا بد وأن يتسرب إلى حياة النحيف فينقطع عن التدريبات ويبقى نحيفاً، وهو الذي كانوا يقولون له في الحارة " أبو عص"، وله من الألقاب ما يكفي لهدِّ جبل، ولكنه بجسده النحيل يقف بمواجهتها ويستمر نحيلاً وممشوقاً متسلحاً بدون وعي بما يقول: "رولان بارت" بأن أجمل جسد للرجل هو الجسد النحيل، وفي سنوات الشباب يلعب النحيف في الشتاء على كيفه، فبالملابس الشتوية بيصير بيغرِّد وبيفرِّد، وبيلبس تحت البنطلون بيجامتين، وتحت القميص تلات تيشيرتات، بالإضافة إلى تلات جواز جوارب تستدعي صبَّاطاً أكبر بنمرتين عن المعتاد، ولا ننسى الجاكيت السبور النفخ الجميل، حتى نراه كهرقل أو ماجيستي لا فرق، وبيمشي بالشارع وما حدا قده، وتلاحقه عيون الفتيات وتتطلع بهالجسم أو هالبادي الغير شكل، وما إن يأتي الصيف حتى يتحرر الجميع من أثقالهم الشتوية وخاصة أصحاب العضلات الفولاذية والأجساد الجميلة، فترى القوام الجميل والمفاتن الأخاذة والعضلات الحقيقية والهرمونية والأكتاف العريضة والصدور العالية، بينما يتمسك النحيف بالثياب الشتوية ولا يتخلى عنها إلا شيئاً فشيئاً، فتراه يرمي في شهر أيار ما تحت البنطال من بيجامات وما تحت القميص من تيشيرتات، وفي حزيران يظهر بجاكيت سبور خفيف أو جينز، وفي تموز يرمي الجواكيت ويظهر بالقميص كم طويل، وفي نهاية تموز يشمر عن الكمين قليلاً، ثم يرمي قميصه الكم طويل في عز آب اللهاب ويظهر لأول مرة على حقيقته بثياب خفيفة، وتبان حقيقته النحيلة والنحيفة، وتصرخ عظامه من فرط السعادة بسبب قربها الشديد من الجلد الحبيب، فينظر المارة بشفقة وازدراء إلى العظام التي تصرخ .
الجسد جميل مهما كان حجمه، سميناً أو نحيلاً أو وسطاً أو سادة، أجسادنا جميلة كلها فقط لو أعطيناها الثقة والحرية كي تعبِّر عن نفسها، لارجاً أو إكس لارجاً أو ميديوماً أو سمولاً، أجسادنا جميلة ومع الثقة والحرية تستطيع أن تعبِّر عن نفسها، وما النفس سوى نحن؟!
لا نستطيع أن نعبِّر عن أنفسنا إذا لم تكن أجسادنا واثقة وحرة.

ألف سردة وسردة.

السمين

الشخص السمين له مكانة خاصة في مجتمعنا، فمن منا لم يتعرف على شخص سمين في حارته أيام الطفولة، إنه ذلك الطفل المجايل لنا ولكنه أضخم منا بشكل لا يوصف فنبدو أمامه نحن المعصمصين مثل شرائط قماشية أو نشبه إلى حد بعيد بالمقارنة به الأحزمة والقشاطات، إنه الطفل الذي يركض الأطفال خلفه كالجراء وهم يصرخون بصوت واحد « دب سمين.. دب سمين»، بينما يركض السمين ويركض وهو يعاني عاطفياً وجسدياً، وفي كل حارة نجد حلقة من الأطفال حول السمين وهم يرددون «الفرجة بقرش على أبو كرش»، والسمين يصرخ ويزمجر كي يحلوا عنه إلى أن يقتحم السور الجسدي المتحلق حوله ويخرج ممزقاً أواصر الصداقة بين الأكف الصغيرة النحيلة التي توحدت ضده.
والسمين أنواع، هناك سمين الطفولة الأصلي الذي تحدثنا عنه قبل قليل، وهو سمين طيب وشرس بآن معاً لكثرة ما تعرض له من مضايقات والشتائم بحق كرشه من قبل التلاميذ والأساتذة على حد سواء، فإذا أخطأ السمين مرة فإن الأستاذ لا يتورع عن نعته بالدب، وإذا لعب السمين مع طفل آخر ومعسه معساً غنى الأطفال "الأبرياء" له « قام الدب ليرقص.. أكللو سبعة أنفس»، وهناك السمين بعد نحف أزلي، وهو السمين الذي كان نحيفاً بسبب فقره المدقع فما إن تدفقت عليه الأموال حتى ركض إلى الطعام بكامل ثروته تعويضاً عن جوع تاريخي، وهو محدث سمنة.. طارئ على عالم البدناء ولا يملك شيئاً من خصالهم وغالباً ما ينتهي هذا النوع بواسطة أمراض مثل الكوليسترول والسكري وارتفاع الضغط وهيك شغلات.
ودائماً نجد فتاة جميلة جداً يحبها شخص سمين من طرف واحد بحزن شديد، فالسمين رومانسي وحبَّاااب وطيوب ويقبل أن يكون صديقاً فحسب مع محبوبته كي تحكي له مغامراتها العاطفية وتستخدمه كما يستخدم فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ عبد السلام النابلسي بصفة جليس عاطفي، فتتحدث المحبوبة والسمين يستمع ونياط القلب تتقطع عنده إلى درجة لو لم تتقطع فيها النياط لما كنت عرفت معناها «شو معناها عن جد»؟!.. كما نجد الشاب الجميل الوسيم الجكل مرافقاً لشخص سمين دائماً في علاقة يتحول فيها السمين من جليس عاطفي إلى بادي غارد بسلاسة لا متناهية، وهناك السمين صاحب الشركة الذي يدخل فتهتز أرجاء المكان ويتراكض النحفاء إليه بتذلل عجيب فيرمق أجسادهم النحيلة بشماتة ويدخل إلى مكتبه والأصوات النحيلة تغني له أحدث نغمات النفاق والاعتراف، ودائماً ما يمتلك السمين بأنواعه وجهاً طفولياً بريئاً «بيبي فاس»، مثل نهاد قلعي الفنان العظيم الذي أبدع بجسده السمين في وضع شخصية السمين في مكان أساسي على خريطة مجتمعنا، فلم يستخدمه للتهريج به كما يفعل الكثيرون من السمان، بل لعب على تناقضاته الشكلية مع غوار النحيف المصوص، ولعل لوريل وهاردي لعبا هذا قبل دريد ونهاد بطرق مختلفة أكثر حركة، ولم ينس تشيخوف أن يتحدث عن السمين وفعل ذلك في قصته الشهيرة "السمين والنحيف"، بينما يخلو الأدب العربي من شخصية السمين الطبيعية، ربما لأن أدباء مراحلنا الفائتة قرروا أن السمين هو رمز للبرجوازية العفنة كما يقولون ظلماً وبهتاناً.

دمشق 2007

 

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية