مهرجان طائر الفينيق المسرحي العربي الخامس 2013

أيضاً يغتالون الحب...قصة الكاتب الأديب القاص سامر أنور الشمالي..

أيضاً يغتالون الحب...قصة الكاتب الأديب القاص سامر أنور الشمالي..

2086 مشاهدة
تتابعت أصوات الرصاص المتقطع ، و تشابكت مع أصوات الأسلحة الأخرى . و هكذا اشتعلت معركة جديدة .

عندئذٍ هرع راكضاً إلى حيث لا يدري ، و انسل قافزاً إلى مكان يلجأ إليه ، فهوى ساقطاً حيث ارتطم جسده ، مع صرخة حادة تلاها نحيب مكتوم .
قام متثاقلاً ، وهو يتحسس جسده وسط الظلام الدامس ، و سار ببطء إلى الداخل ماداً يديه أمامه ، باحثاً عن جدار يلوذ به . فلامست يده شيئاً لم يتبينه للوهلة الأولى ، ثم سمع صرخة أخرى ، و أحس بالجسد الآخر ينكمش مبتعداً عنه .
قال :
ـ من هنا ؟!
لم يسمع إجابة . بل ظل صوت النحيب المتهدج المعبر عن هلع غير محتمل . فبقي واقفاً مكانه يحدق في عمق السواد دونما جدوى .
انفجرت قنبلة على مقربة من الملتجأ ، فدوى صوتها الرهيب ، و ثار الغبار ، و ومض نورٌ شاحبٌ . فرأى امرأة مرتعدة تجلس في الزاوية متكومة على نفسها ، بينما رأسها يتحرك في كل اتجاه ، محدقة بعينين متوجستين دامعتين .
كي يطمئن المرأة المذعورة ، و يزيل وحشة الخراب ، بادر بالكلام :
ـ يبدو أنك خائفة .. لا داعي للخوف !
لم يعد يسمع صوت البكاء ، فأردف متشجعاً :
ـ يجب أن نواجه الأزمة بشجاعة كي ننتصر ..كلها مجرد أيام قليلة و يعود لنا السلام .
توقف عن الاسترسال في كلامه ، كي يفسح لها المجال للحوار . و لكنها ظلت صامتة . فواصل حديثه المنفرد :
ـ هل منزلك قريب من هنا ؟
لم تجب على سؤاله . فتجاهل صمتها ، و استمر في مخاطبتها :
ـ كنت في طريقي إلى منزلي عائداً من عند أحد أصدقائي.. ففاجأتني الغارة برغم أنني كنت ..
أخرسته أصوات المدافع ، فجلس مسنداً ظهره إلى الجدار. و أحس بها تقترب إلـى أن التصقت بـه ، و همست بصوت مخنوق :
ـ خائفة !
فقال ، محاولاً أن يبدو صوته متماسكاً :
ـ لا تخافي و أنا معك .
و ابتسم بمرارة ، ابتسامة مخذولة . لم ترها في الظلام .
غص المكان على ضيقه بدوي القصف . فأخذت تبكي . فأردف بحنان :
ـ تشجعي .. يجب ألا نستسلم لليأس .
شعرت بالطمأنينة معه ، فمسحت دموعها .
سألها ، كي يزيل الحرج :
ـ هل تدخنين ؟
أجابته :
ـ الآن فقط .. سأدخن .
أشعل عود الثقاب فرأى وجهها الذي أكسبته النار توهجاً دافئاً . وابتسمت و هي تتأمله . و شعر أن وجهها الباسم برغم كل الأحزان أجمل شيء في الدنيا . و لم ينتبه لعود الثقاب الذي اشتعل عن آخره فحرق إصبعه ، فقذفه إلى برودة الهواء ، و أخذ ينفخ مكان الحرق . فضحكت بمرح ، وشاركها الضحك . حتى لم يعودا يسمعان أصوات المعركة الدائرة بضراوة في الخارج .
أشعل عود ثقابٍ آخر ، ومد يده بعلبة السجائر ، فأخذت سيجارة ، و قد وضعت يدها فوق يده لتحمي الشعلة الصغيرة المتوهجة لعود الثقاب . فشعرا بدفء المكان ، كأنه منزلهما . ثم أشعل سيجارته . و لكنه لم يقذف بعود الثقاب ، بل حرص أن يظل مشتعلاً كي يتأمل وجهها أطول مدة ممكنة ، وخمنت ذلك فضحكت ، و ضحك معها . و قد شعرا أن كلاً منهما يعرف الآخر منذ مدة طويلة . بينما تنبعث من الجمرتين المتوهجتين للسيجارتين ، ظلال شفافة الحمرة ، تنير الوجهين ، مع كل سحبة دخان .
بعدما فرغا من السيجارتين . وهما يثرثران كصديقين قديمين . أشعل لنفسه سيجارة أخرى ، و أصر على إشعال سيجارة لها ، دون أن يشفع سعالها وهي تدخن السيجارة السابقة في إعفائها من التدخين .
و أخذا يتحدثان عن نفسيهما ، و كيف سيحققان أحلامهما في المستقبل :
ـ أنا معلمة .. حتى مدرسة الأطفال هاجموها و رأيت الأطفال يقتلون أمامي !
و أخذت تبكي ، و تتحدث بصوت متهدج :
ـ لن أنسى ما رأيت طوال عمري .
أكد ، و هو يتذكر من ماتوا أمامه :
ـ مهما طالت الحرب فستنتهي .. وستفتح مدارس الأطفال من جديد .
ـ إن شاء الله عما قريب .
سألها بعد طول تردد :
ـ هل أنت متزوجة ؟
ـ لا .
ـ إذاً عندما ستتزوجين ستنجبين مدرسة كاملة .
ضحكت بحياء ، و سألته بدورها :
ـ و أنت ؟
ـ لم أجد فتاة أحلامي سابقاً .. و لكنني أعتقد الآن أنني وجدتها بين الأنقاض .. كزهرة برية تنبت في صحراء قاحلة متحدية الأشواك .. و انحباس المطر .
كان صدى ضحكاتهما ، يضيع في العتمة المثقلة بضجيج المعركة .
بعدما فرغت علبة التبغ . أخذ يشعل أعواد الثقاب واحداً فالآخر ، و هو يستمع إليها ، و هي تروي له قصة بائعة أعواد الثقاب الـتي كانت ترويها لتلاميذها الصغار . و عندمـا وصلت إلى نهايتها المحزنة فرغت علبة الثقاب :
ـ يجب أن لا نروي للأطفال القصص المحزنة .
ـ و لكن الحياة أكثر حزناً من أي قصة .
ـ ويبقى الأمل .. لهذا سأقرأ لك أخر قصيدة كتبتها .
ـ هل تكتب الشعر ؟
ـ و كنت سأصدر ديواني الثاني لولا قيام الحرب .
باغتهما ضوء الكشاف الساطع الذي أنار المكان الصغير بشدة طاغية ، فأغمضا العيون من شدة الضوء الباهر . ثم تبين لهما أشباح سود بثياب عسكرية ، تختبئ وجوههم تحت الخوذ .
اقترب الجنود بأحذيتهم الثقيلة ، محاولين فصل الجسدين - اللذين تحولا لجسد واحد - بأعقاب البنادق . ولكن الجسدين المذعورين تماسكا بالأيدي، والأرجل ، وحتى بالأظافر ، والأسنان . فوضع أحد الجنود فوهة مسدسه على رأس من كان يحلم بالحب منذ قليل ، مفرغاً عدة رصاصات في الجمجمة التي انفلشت ملطخة الثياب العسكرية بالدماء ، و تكوم جسده النازف على الأرض .
فأخذت تصرخ بشدة ، و هي تتثبت بجثته الهامدة ، و هم يسحبونه بعيداً عنها . ثم شدوها من شعرها الطويل الناعم ، ومزقوا ثيابها ..
وسرعان ما ماتت بين أيديهم . وتركوها ملطخة بالدماء ، بجانب جثته .
و غادروا المكان ، ليتابعوا انتشارهم ، لمواصلة القتال

*
من مجموعتي القصصية (تصفيق حتى الموت) الصادرة عن دار التوحيدي بحمص عام 2001.

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية