عندئذٍ هرع راكضاً إلى حيث لا يدري ، و انسل قافزاً
إلى مكان يلجأ إليه ، فهوى ساقطاً حيث ارتطم جسده ، مع صرخة حادة تلاها نحيب مكتوم .
قام متثاقلاً ، وهو يتحسس جسده وسط الظلام الدامس ، و
سار ببطء إلى الداخل ماداً يديه أمامه ، باحثاً عن جدار يلوذ به . فلامست يده
شيئاً لم يتبينه للوهلة الأولى ، ثم سمع صرخة أخرى ، و أحس بالجسد الآخر ينكمش
مبتعداً عنه .
قال :
ـ من هنا ؟!
لم يسمع إجابة . بل ظل صوت النحيب المتهدج المعبر عن
هلع غير محتمل . فبقي واقفاً مكانه يحدق في عمق السواد دونما جدوى .
انفجرت قنبلة على مقربة من الملتجأ ، فدوى صوتها
الرهيب ، و ثار الغبار ، و ومض نورٌ شاحبٌ . فرأى امرأة مرتعدة تجلس في الزاوية
متكومة على نفسها ، بينما رأسها يتحرك في كل اتجاه ، محدقة بعينين متوجستين
دامعتين .
كي يطمئن المرأة المذعورة ، و يزيل وحشة الخراب ، بادر
بالكلام :
ـ يبدو أنك خائفة .. لا داعي للخوف !
لم يعد يسمع صوت البكاء ، فأردف متشجعاً :
ـ يجب أن نواجه الأزمة بشجاعة كي ننتصر ..كلها مجرد
أيام قليلة و يعود لنا السلام .
توقف عن الاسترسال في كلامه ، كي يفسح لها المجال
للحوار . و لكنها ظلت صامتة . فواصل حديثه المنفرد :
ـ هل منزلك قريب من هنا ؟
لم تجب على سؤاله . فتجاهل صمتها ، و استمر في
مخاطبتها :
ـ كنت في طريقي إلى منزلي عائداً من عند أحد أصدقائي..
ففاجأتني الغارة برغم أنني كنت ..
أخرسته أصوات المدافع ، فجلس مسنداً ظهره إلى الجدار.
و أحس بها تقترب إلـى أن التصقت بـه ، و همست بصوت مخنوق :
ـ خائفة !
فقال ، محاولاً أن يبدو صوته متماسكاً :
ـ لا تخافي و أنا معك .
و ابتسم بمرارة ، ابتسامة مخذولة . لم ترها في الظلام .
غص المكان على ضيقه بدوي القصف . فأخذت تبكي . فأردف
بحنان :
ـ تشجعي .. يجب ألا نستسلم لليأس .
شعرت بالطمأنينة معه ، فمسحت دموعها .
سألها ، كي يزيل الحرج :
ـ هل تدخنين ؟
أجابته :
ـ الآن فقط .. سأدخن .
أشعل عود الثقاب فرأى وجهها الذي أكسبته النار توهجاً
دافئاً . وابتسمت و هي تتأمله . و شعر أن وجهها الباسم برغم كل الأحزان أجمل شيء
في الدنيا . و لم ينتبه لعود الثقاب الذي اشتعل عن آخره فحرق إصبعه ، فقذفه إلى
برودة الهواء ، و أخذ ينفخ مكان الحرق . فضحكت بمرح ، وشاركها الضحك . حتى لم
يعودا يسمعان أصوات المعركة الدائرة بضراوة في الخارج .
أشعل عود ثقابٍ آخر ، ومد يده بعلبة السجائر ، فأخذت
سيجارة ، و قد وضعت يدها فوق يده لتحمي الشعلة الصغيرة المتوهجة لعود الثقاب .
فشعرا بدفء المكان ، كأنه منزلهما . ثم أشعل سيجارته . و لكنه لم يقذف بعود الثقاب
، بل حرص أن يظل مشتعلاً كي يتأمل وجهها أطول مدة ممكنة ، وخمنت ذلك فضحكت ، و ضحك
معها . و قد شعرا أن كلاً منهما يعرف الآخر منذ مدة طويلة . بينما تنبعث من
الجمرتين المتوهجتين للسيجارتين ، ظلال شفافة الحمرة ، تنير الوجهين ، مع كل سحبة
دخان .
بعدما فرغا من السيجارتين . وهما يثرثران كصديقين
قديمين . أشعل لنفسه سيجارة أخرى ، و أصر على إشعال سيجارة لها ، دون أن يشفع
سعالها وهي تدخن السيجارة السابقة في إعفائها من التدخين .
و أخذا يتحدثان عن نفسيهما ، و كيف سيحققان أحلامهما
في المستقبل :
ـ أنا معلمة .. حتى مدرسة الأطفال هاجموها و رأيت
الأطفال يقتلون أمامي
!
و أخذت تبكي ، و تتحدث بصوت متهدج :
ـ لن أنسى ما رأيت طوال عمري .
أكد ، و هو يتذكر من ماتوا أمامه :
ـ مهما طالت الحرب فستنتهي .. وستفتح مدارس الأطفال من
جديد .
ـ إن شاء الله عما قريب .
سألها بعد طول تردد :
ـ هل أنت متزوجة ؟
ـ لا .
ـ إذاً عندما ستتزوجين ستنجبين مدرسة كاملة .
ضحكت بحياء ، و سألته بدورها :
ـ و أنت ؟
ـ لم أجد فتاة أحلامي سابقاً .. و لكنني أعتقد الآن
أنني وجدتها بين الأنقاض .. كزهرة برية تنبت في صحراء قاحلة متحدية الأشواك .. و
انحباس المطر .
كان صدى ضحكاتهما ، يضيع في العتمة المثقلة بضجيج
المعركة .
بعدما فرغت علبة التبغ . أخذ يشعل أعواد الثقاب واحداً
فالآخر ، و هو يستمع إليها ، و هي تروي له قصة بائعة أعواد الثقاب الـتي كانت
ترويها لتلاميذها الصغار . و عندمـا وصلت إلى نهايتها المحزنة فرغت علبة الثقاب :
ـ يجب أن لا نروي للأطفال القصص المحزنة .
ـ و لكن الحياة أكثر حزناً من أي قصة .
ـ ويبقى الأمل .. لهذا سأقرأ لك أخر قصيدة كتبتها .
ـ هل تكتب الشعر ؟
ـ و كنت سأصدر ديواني الثاني لولا قيام الحرب .
باغتهما ضوء الكشاف الساطع الذي أنار المكان الصغير
بشدة طاغية ، فأغمضا العيون من شدة الضوء الباهر . ثم تبين لهما أشباح سود بثياب
عسكرية ، تختبئ وجوههم تحت الخوذ .
اقترب الجنود بأحذيتهم الثقيلة ، محاولين فصل الجسدين
- اللذين تحولا لجسد واحد - بأعقاب البنادق . ولكن الجسدين المذعورين تماسكا
بالأيدي، والأرجل ، وحتى بالأظافر ، والأسنان . فوضع أحد الجنود فوهة مسدسه على
رأس من كان يحلم بالحب منذ قليل ، مفرغاً عدة رصاصات في الجمجمة التي انفلشت ملطخة
الثياب العسكرية بالدماء ، و تكوم جسده النازف على الأرض .
فأخذت تصرخ بشدة ، و هي تتثبت بجثته الهامدة ، و هم
يسحبونه بعيداً عنها . ثم شدوها من شعرها الطويل الناعم ، ومزقوا ثيابها ..
وسرعان ما ماتت بين أيديهم . وتركوها ملطخة بالدماء ،
بجانب جثته .
و غادروا المكان ، ليتابعوا انتشارهم ، لمواصلة القتال …
*من مجموعتي القصصية (تصفيق حتى الموت) الصادرة عن دار
التوحيدي بحمص عام 2001.
.jpg)
أيضاً يغتالون الحب...قصة الكاتب الأديب القاص سامر أنور الشمالي..
الإثنين حزيران,2013
1961 مشاهدة
تتابعت أصوات الرصاص المتقطع ، و تشابكت مع أصوات
الأسلحة الأخرى . و هكذا اشتعلت معركة جديدة .
التعليقات