مواضيع للحوار

التمظهرات الوسائطية للجسد في المسرح المُعاصر

التمظهرات الوسائطية للجسد في المسرح المُعاصر

1068 مشاهدة

 التمظهرات الوسائطية للجسد في المسرح المُعاصر

  بشار عليوي

المصدر: موقع الخشبة

 يُعد الجسد من أهم الوسائط التي استخدمها الإنسان عَبرَ التاريخ في تحقيق مُتطلبات معيشتهِ وحياتهِ، حياتهِ اليومية، فالجسد هوَ أول وسيط اعتمدت الحياة البشرية في بداية

تَشَكّلِها عليهِ كوسيط للحصول على الغذاء والماء عبرَ الخروج «الجسدي» لرب الأسرة إلى البراري للصيد بُغية الحصول على المأكل ولاحقًا الملبس مؤمنًا بهذا الخروج احتياجات أفراد عائلتهِ، ومن ثم أخذ هذا السلوك يتطور لناحية ميل الإنسان للتصرف وفقًا لمبدأ المُشاركة الجسدية الجمعية بالخروج مع عدد من أقرانهِ لإنجاز عملية الصيد التي باتت تَتطلب وجود أفراد عدة يغلب عليهم التعاون لتسهيل تلك المهمة وكُل هذا ما كانَ ليتحقق إلا مع وجود آليات مُعينة جسدية للتواصل فيما بينهم عبرَ الإشارات والأصوات والحركات.. وغيرها، وهذا كُلهُ يقودنا لتأكيد أن وجود الوسيط وأهميتهِ قد بدأت مع بدايات تَشَكُّل الحياة البشرية، وبذا أصبحت أهمية وجودهِ مرتبطةً بوجود الإنسان نفسه، لأن الإنسان بين جميع الكائنات الحية، الإنسان العاقل هوَ وحدهُ الأكثر تكيُّفًا مع جميع الأوساط. إمكانية التكيف هذهِ تُحددهُ ككائن ثقافة، أي كائن قابل للتطور، غير مُبرمج، نِتاج أدواتهِ وكذلكَ نتاج جيناتهِ الوراثية، وبذا يُمكن مُقاربة الجسد بوصفهِ واحدًا من أهم تمظهرات الوسائطية في التاريخ.

إن الوسائطية هي من أبرز تمظهرات عصرنا الحالي (عصر الوسائط/ عصر الصورة/ عصر الثقافة البصرية)، فالوسيط هوَ الأساس الذي قامَ عليهِ (علم الميديولوجيا) الذي أسسهُ الفيلسوف الفرنسي المُعاصر (ريجيس دوبري) ضمن مشروع فكري وفلسفي مُتكامل مُعتبرًا إياهُ العلم الاجتماعي للمُستقبل وعلم القرن الواحد والعشرين بوصفهِ قرن الوسائط التكنو-ثقافية، عبرَ الاهتمام بدراسة وظيفة الوسيط في الفكر الإنساني المُعاصر ودورهِ المحوري في إعادة تشكيل تبديات هذا الفكر وفقًا لمُعطيات العصر الذي أصبحتْ فيهِ الثقافة البصرية هي الحاضرة، ويرجع أصل مُصطلح (الميديولوجيا) إلى مُفردتين هُما (ميديو Médio) التي هي الجذر الأساس للمُصطلح وتعني (وسيط) ويعني في مُقاربة أولية لهُ المجموع التقني والفكري المحدد للوسائط، و(لوجيا Logie) وقد وضعها (دوبري) من أجل الإثارة والاحتجاج ضد التعدد والتصغير المُتناهي الذي يسود الفكر الإنساني خلال نهايات القرن العشرين، والذي يرفض أي جهد تنظيمي مُتقدم، كذلك من أجل أن تكون الميديولوجيا الحق بالوجود كعلم مُستقل. والميديولوجيا تهتم بدراسة كُل الوسائط التي تنقل أفكارا، أو تُرَوّجُ لآيديولوجيات، وتُكْسِبْ تلكَ الوسائط الأفكار أو الآيديولوجيات قوة لم تكن لتتأَّتى لها وحدها.

إن الوسيط بوصفهِ أساس الميديولوجيا وفقًا للمفكر الفرنسي (ريجيس دوبري)، لا يمكن لهُ تحقيق وجودهِ بفردانية وأي تأثير لهُ لن يَحدث دون وجود عوامل مُساعدة تمكنهُ من أن يُحدث فارقًا في فضائهِ الميديولوجي، فالجسد بوصفهِ وسيطًا من جهة لا يُمكن أن يعمل وحده وثمة حامل وناقل للوسيط هوَ الممثل يعمل بمعزل عنهُ داخليًا وخارجيًا من جهة أخرى، فمن أجل أن يكون الجسد وسيطًا مُهيمنًا داخل مجالهِ الميديولوجي في المسرح المُعاصر لا بُدَّ من تحقيق التأثير في المُتفرج واستمالتهِ نحوَ العرض وليس تبليغ أي حقيقة كانت، فحضور وسيط الجسد في العرض المسرحي المُعاصر بشكل أساسي يجعلهُ يُشَكِّلُ العرض نفسه حينما يكون هذا الوسيط محوره كله، وهذا يتوافق مع آليات التلقي المُعاصر الذي باتَ يعتمد على اللغة الجسدية التي يتم إبصارها من قبل المُتفرج، والتي يُشكل الجسد محورها الأساس عبرَ ما يوفرهُ وجود الفضاء الميديولوجي (Mediasphere) كنظير للفضاء المسرحي وحضور الوسائط بجميع أشكالها وأنواعها داخل منظومة العرض المسرحي المُعاصر الذي أصبح يستوعب جميع مُخرجات الفكر الإنساني المُعاصر، ومنها التطورات الكبيرة لناحية توظيف الوسائطية واستخداماتها في المجالات الحياتية كافة.

لقد أصبح العرض المسرحي المُعاصر يستخدم وسيط الجسد بالتساوق مع بقية الوسائط الماديةِ منها والحسية استخدامًا يُثري العرض عبرَ دوائر أدائية يُحركها جسد المُمثل، وهذا يؤكد أن غالبية المسرحيين حول العالم ومُنتجي العروض المسرحية قد بدأوا فعلاً بالتخلي عن العناصر الأدبية للمسرح، معبرين عن فهم وإدراك وتخيل الفنانين للمسرح من خلال الربط بين الأفكار والعواطف والصوت واللون والزمان والمكان والصورة والضوء وغيرها من العناصر والأشكال المُختلفة بالجسد بوصفهِ وسيطًا بين الممثل والمُتفرج، فالتمظهرات الوسائطية لجسد الممثل داخل الفضاء الميديولوجي في المسرح المُعاصر قد تم الاعتماد بوساطتها وبشكل أساسي في إعادة تشكيل وظيفة المسرح المعاصر عبرَ وسيط الجسد لأن وظيفة هذا المسرح لا تصبح لها أي قيمة إلا حينما يُحقق فعل المُغايرة عما ألفهُ الجمهور وأذواقه وحاجاته وهي في الغالب جماعية، فالمسرح لا يقوم بوظيفتهِ ولا يكون مُفيدًا للجمهور إلا إذا زلزل هذا الهوس الجماعي وكافح هذا الجمود، مما يعني أن حدوث أي خلل في ماهية وسيط الجسد بين المُمثل والمُتفرج سيؤدي بالضرورة الحتمية إلى حدوث خلل في توصيل خطاب العرض فكريًا وجماليًا ومن هُنا يبرز جليًا إبراز أهمية وجود وسيط الجسد داخل هذا الفضاء وفقًا للمُقاربة الميديولوجية لعصرنا الحالي/ عصر الصورة/ وعصر شيوع الثقافة البصرية، إذ قسم (دوبري) تاريخ الفكر الإنساني إلى ثلاثة عصور ميديولوجية هي:

أولاً: عصر الكتابة (اللوغوسفير)

ثانيًا: عصر الطباعة (الغرافوسفير)

ثالثًا: عصر الشاشة (الفيديوسفير)

والأخير هوَ عصرنا الحالي الذي تعززت فيهِ أهمية حضور الميديولوجيا في المسرح المعاصر، من خلال وجود الفضاء الميديولوجي، الذي سُيجدد فهمنا للمسرح المُعاصر وفقًا لتمظهرات عصرنا الحالي عبرَ تأكيد أهمية الجسد والتعامل معهُ بوصفهِ وسيطًا من أجل فهم دلالاتهِ ومعانيهِ ومقاصدهِ بشكل مُختلف عن الدراسات السيميائية الثنائية المُرتكزة على الدال والمدلول، من خلال التركيز على ماهية هذا الوسيط وهي واحدة من أبرز تمظهرات حضور وسائطية الجسد في المسرح المُعاصر بوصفهِ وسيطًا قابلاً للتواصل والتراسل ما بين الممثل والمُتفرج، ويرى (دوبري) أن مركز جاذبية الفكر البشري بحسب العصور الميديولوجية الثلاثة أعلاه ومُقاربتها للجسد قد تمرحلَ وفقًا لما يلي:

أولاً: النفس (Anima)

ثانيًا: الضمير (Animus)

ثالثاُ: الجسد (Sensorium)

وبذا فإن حضور وسائطية الجسد في المسرح المُعاصر بوصفهِ وسيطًا، يتجسد من خلال ما يأتي:

الانضمام الحر للوسائط مع جسد الممثل.

الحضور البدني الفعلي للجسد اخل العرض.

وجود قطب نشط داخل العرض يُمثلهُ وسيط الجسد وآخر يتأمل يُمثلهُ الجمهور عبرَ المحاكاة الخيالية للواقع تتم بالوسائط المُستخدمة.

كيفية الأداء المُباشر لجسد الممثل داخل الفضاء الفرجوي، مما يُبرز أيضا بثًا مُباشرًا لحركة هذا الأخير بوصفهِ وسيطًا.

كما تساهم تمظهرات وسائطية الجسد في العرض المسرحي المعاصر في إثراء شكل العرض جماليًا وفكريًا من خلال ما يأتي:

إحداث ثورة سينوغرافية جديدة في عالم المسرح تتماهى فيها وسائطية الجسد مع بقية الوسائط.

أكدتْ نزوع وسيط الجسد المُستمر نحوَ تجديد لغة العرض المسرحي المعاصر.

قوضت الكثير من الرؤى السابقة حول مفهوم الجسد.

إعادة النظر لأثر جسد الممثل في تخليق جماليات المسرح وإعادة تشكيل رؤى المُتفرج.

إن وسائطية الجسد في المسرح المُعاصر بوصفهِ وسيطًا، هي واحدة من أبرز تمظهرات المُقاربات الفلسفية للجسد في هذا المسرح، أو بتعبير أدق في المشهد المسرحي الجديد، وهذا ما يستلزم إعادة القراءة النقدية الجديدة لفلسفة الجسد وفقًا لتمظهرات عصرنا الحالي، عصر الوسائطية، عصر الصور، آخر عصور الميديويلوجيا.

مصادر الدراسة:

عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2014).

محمد خير الرفاعي، الوسائط والميديا والمسرح بين التجاور والتحاور في التركيب والتعميق والتغريب، مجلة المسرح العربي، ع21و22، (الشارقة: الهيئة العربية للمسرح، مارس – أبريل 2016).

ريجيس دوبريه، محاضرات في الإعلام العام – الميديولوجيا، تر: فؤاد شاهين وجورجيت حداد، مراجعة: فريدريك معتوق، ط1، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1996).

See: Régis Debray،، La querelle du spectacle _ Pourquoi le spectacle