مواضيع للحوار

الجائزة ليست حلية

الجائزة ليست حلية

631 مشاهدة

الجائزة ليست حلية

أنور محمد

المصدر: العربي الجديد – ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي

 

نُريدُ ولادةً شُجاعةً لنصوصٍ إنْ في العلوم أو الآداب، تُجذِّرُ لوعيٍ إنساني، وتصير جدولاً، ساقيةً، إنْ لم تصبح نهراً، تنهضُ عليها بعض نهضتنا الفكرية، وذلك على مبدأ جدلية النقض التي تقوم على القوَّة الخلاَّقة للصيرورة، وليس على مبدأ (الجائزة) كان ما كان جنسها، التي ما تفتأ تذرنا في حالة النكوص والردَّة، جائزة لا نعرف من اخترعها وكأنَّها البلسم الشافي من التخلف والقهر والوثنية واللاهوت.

في الملف الذي أجرته "ضفة ثالثة" بهذا الشأن من إعداد الشاعر عماد الدين موسى، ولا بدَّ من استعراضه، تكاد الآراء تكون متقاربة في أنَّ الجائزة تحقق انتصاراً مادياً ومعنوياً لحائزها.

نرى الروائي السوري فيصل خرتش وإن أبدى رأياً، ذهب إلى السرد القصصي. فقرأنا قصة "صعقة الجائزة" عن كيف فاز بجائزة الطيب صالح للرواية 2018 وقد سردها بانفعال عقلاني من لحظة إرسال المخطوط  بالبريد الإلكتروني من حلب، إلى أن ذَهَبَ إلى الخرطوم بالطائرة ولم يكترث به أحد كَمُتوَّج بالجائزة الأولى، إلى أن أعلنوا فوزه بها وصار الإعلاميون يمطرونه بالأسئلة. فيصل ذهبَ بنا من العَدَم، حيثُ لم يكن يفكِّر في الجائزة، وقد نسيَ مشاركته لمرور أشهرٍ عليها، فإذا به يرجع إلى الوجود.

بينما رأى سمير جريس أنَّ الجوائز قدَّمت دعماً مالياً لا يُستهان به. كذلك د. تحسين رزاق عزيز اعتبر أنَّ القيمة المعنوية للجائزة بالإضافة إلى قيمتها المادية تساعد الكاتب والمترجم على مواصلة الإبداع. في حين راحت صابرين فرعون إلى التشكيك في مصداقية لجان التحكيم، فهي ليست على صواب دائماً في اختياراتها. د. علياء الداية لم تحدِّد موقفها، بل شرحت معنى الجائزة. أمَّا سامي داوود فيقول إنَّنا بتنا أمام جوائز تشتغل كهِبات/ عطايا، تمنحها جهات معينة لتمرير سياسات غير جمالية عبر المنتج الجمالي. عمران عز الدين اعتبر أنَّ حال الجوائز العربيّة من حال العبث السياسي العربي الذي خيَّمَ بِظلاله التَعِسة ليس على الأدب فحسب، بل أيضاً على كلِّ مناحي وأوردة الحياة. وجدي الأهدل أكد أنَّ إتقان الكتابة الجيدة هو الهدف الأساس. بينما رأى حمزة قناوي أنَّ الجائزة انحرفت عن دورها الطبيعي كعاملٍ مُحفّزٍ للإجادة إلى هدفٍ مبتغى بحدِ ذاته. فيما قال محمد جعفر إنَّها الفرصة الوحيدة لانتشال الكاتب العربي من وضعه البائس والكريه. ممدوح رزق قال إنَّها التكريس المتعمَّد للكتابة المتطهرة من الشرور الجمالية الهدَّامة. ورأت مروى ملحم أنَّ الجائزة لا تصنع كاتباً.

هذا يعني أنَّ أغلب المشاركين في الملف اعتبروها أوَّلاً وآخراً فعلاً ضرورياً، فعلاً قصدياً لتنشيط الحياة الثقافية، وإن لم يفز أغلبهم بها. كما أنَّ بعضهم رأى أنَّ لجان التحكيم لا تحمل الصدق ولا الكفاءة العلمية والأدبية والنقدية في تقدير وفرز النص الثمين من الغث، فالجائزة

"الجائزة مُنحت في الكثير من أشكالها وألوانها وأجناسها إلى غير مُستحقيها، وهي جائزة سياسية، وغسيل للأموال"

 مُنحت في الكثير من أشكالها وألوانها وأجناسها إلى غير مُستحقيها، وهي جائزة سياسية، وأنَّها لغسيل الأموال.

أجوبة، آراءٌ تكشفُ عن مقتلِ الفكر العربي كونه ما يزالُ يبحثُ عن مبرِّر/ تبريراتٍ وأعذارٍ لخياناته المعتقدية، فيعيدُ إنتاج آراء، نصوصٍ أدبية وفنية تجسِّد التقليد والمماثلة. في حين أنَّ الفكر الأوروبي والأميركي مُبتدع الجوائز يراها رغم تسييسها، كما رأى عمران عز الدين وسامي داوود، أنَّها فعلُ تمرُّد، فعلُ خلقٍ مُبدع يحوِّل الكمَّ إلى كيفْ. فالنص الفائز بالجائزة - أيِّ جائزة - سيكون في لحظة مجابهة؛ لحظة صراعٍ جديدة. ورأينا روايات، مسرحيات، لوحات، سيمفونيات موسيقية، إلخ... صنعت عصر النهضة الأوروبية، بل شكَّلت الفكر القومي الأوروبي ولم تحتز أيَّ جائزة. وهذا إِنْ دلَّ فإنَّه يدلُّ على أنَّ النخبة هي مَنْ تُؤمِّن وتُقيم ذاك الاتصال الوجودي بالحقائق الكونية العميقة بين ما (كان) وما سوف (يكونه). فتصير مثلاً روايات نجيب محفوظ والطيب صالح مصدراً شرعياً لفن الرواية العربية؛ ولقد شغلنا كثيراً وطويلاً وما يزال الطيب صالح خاصة في روايته "موسم الهجرة إلى الشمال"، وكذلك نجيب محفوظ في "الثلاثية". وهما روايتان دلَّتا على قوَّة عبقريتهما، في أنَّهما من روايات النخبة - نخبوية ولكنَّها شعبية ترقى إلى النبل، وفرجتنا ما (كان) وما (يكون) فدفعتنا لاكتشاف الحياة.

الإبداع يلعب دور المحرِّض، وهو الذي يصنع الحالة الثقافية - أي نعيش الجمال، ونحن نحمل موقفاً نقدياً من السلطة التي تصادر الجمال وتحولنا إلى (شيء). فيما نحن خالقو القيم المادية والروحية. فأغلب الآراء لم تكن تكشف عن قيمة (أنا) الأمَّة؛ عقل الأمَّة بشكل مباشر، بينما ذهب بعضها إلى اعتبار الجائزة عملاً ربحياً من باب المنفعة الذاتية، وهذا يتعارض مع المبادئ الوجودية حول مأساوية الوجود التي تُصنعُ منها هذه التراجيديا؛ هذه الحياة التي تمتلئ بها الروايات والمسرحيات والموسيقى والألوان، وهي تُحفِّزُنا على استقبال الحياة على (أمل)؛ أن ننتظر وننتظر عسى أن (يكون) الذي لم (يكن) باعتبار أنَّ الأمل هو مَنْ يُغذِّي الروح

"رأينا روايات، مسرحيات، لوحات، سيمفونيات موسيقية، إلخ... صنعت عصر النهضة الأوروبية، بل شكَّلت الفكر القومي الأوروبي ولم تحتز أيَّ جائزة"

الجائزة هي كشفٌ عن الجنون، كشفٌ عن العبقرية المُبدعة، وليست حلية. وإِنْ ذهبت - وهذا ما يؤلم في حالنا الآن - إلى غير مُستحقيها، باعتبار، كما ذكر  بعض الكُتَّاب، أنَّ بعض لجان التحكيم تتحمل مسؤولية تدجين الجائزة وتفسيخ الوعي الإنساني، بل صار العبقري المبدع قرباناً بشرياً علي أيدي مثل هذه اللجان لتصير الآداب والفنون أعمالاً مُضادةً للحياة، بل تمارس عدوانيتها على الجمال.

لماذا الجائزة؟ وهل نحن بحاجة إلى مثل هذه الجوائز طالما أنَّ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية العربية تحكمها ألسنة وسياط المستبدين وهم يمارسون علينا ضغوطاً مخيفة وضروب قمعٍ وعبودية، وبالتالي لا تحولات ولا تنوعات مدنية؟ بل صارت الأدغال مدينة، فلا نسمع حتى صدى صوت ابن خلدون في العمران - ولا عمران - في أن يأخذ العقل بالسببية. بل صرنا نعيش تعقيداً بيولوجياً ونفسياً، وأنَّ العمران الذي عمَّرنا به حياتنا ما هو إلاَّ جيوب فوضى، وازداد تخلفنا الريفي، واستمرأنا العبودية والقطيعية. ولو دقَّقنا لوجدنا أنَّ نجيب محفوظ وغائب طعمة فرمان والطيب صالح وعبد الرحمن منيف وهاني الراهب والطاهر وطار وآخرين قد

"معظم نصوصنا بأجناسها الأدبية والفنية وحتى العلمية والتي نال بعضها الجوائز لا تملك قوَّة وشجاعة الفعل، لقد كانت  عاجزة وساذجة لم تشتبك مع المكونات الروحية والمادية للإنسان العربي"

أحاطت بل لعبت رواياتهم على مثل هذه الحالة من صدام القيم فصرنا أمَّة تلتهم حالها.

ثمة جائزة للرواية والشعر والمسرحية والرسم، ونحن أمَّة لا مادية ولا مثالية أَدْرَكَنا الوعيُ ولم ندركه. فجاءت معظم نصوصنا بأجناسها الأدبية والفنية وحتى العلمية والتي نال بعضها الجوائز لا تملك قوَّة وشجاعة الفعل، لقد كانت عاجزة وساذجة لم تشتبك مع المكونات الروحية والمادية للإنسان العربي. لنقرأ الروايات والآثار التي نالت الجوائز، ماذا فعلت؟ ماذا غيَّرت؟ ماذا خسرت؟ ماذا ربحت؟ أليست نصوصاً بدون نصوص، أدباً بدون أدب. لقد قبض (منتجوها) البدل النقدي ومضوا. وفي هذا تحطيم للعقل، وحركة تقهقر نحو تصفية الهوية والذات الحضارية فلا تقوم لنا قائمة.

أين هذا العقل الكوني الفلسفي - عقلنا، أين هذه الجائزة منه وهي تتقرَّى النصوص لتمنحها ما تمنحها من نقود أو خلود!!؟ ما هذا الزمن الثقافي الجائزي الذي يدفع ويعمِّق القطيعة المعرفية مع العقل، فيسلِّمُنا، بل يضعنا في قبضة الميثا واللاهوت، ما يهين العقل الذي هو من حركة وصيرورة.