أخبار فنية

الحكواتي ماحي مسلم صدّيق

الحكواتي ماحي مسلم صدّيق

2268 مشاهدة

الحكواتي ماحي مسلم صدّيق

 
لابدّ من التّأصيل للتراث وضمان الاحترافية
     
تعتبر الحكاية الشعبية من التراث اللاّمادي الذي يعدّ في حدّ ذاته خزانة ثقافية لابدّ من الحفاظ عليها والتّأصيل لمعاييرها ، ناهيك عن تلقينها للأجيال الواعدة لا سيّما في عصر العنكوبتية أين طغت التكنولوجيا وحجبت كلّ ما هو أصيل .

على هذا الأساس كان لابدّ من الاهتمام بالحكاية الشعبية والعمل على تداولها ونشرها بين الأجيال مهما اختلفت اهتماماتها وتباينت وجهات النّظر إليها ، فالحكاية الشعبية جسر للتواصل ومجال خصب لتبادل الرّؤى واختصار المسافات لما تنطوي عليه من تحصيل للحكمة واستخلاص الدّروس ،والأفراد الذين اتّخذوا على عاتقهم مسؤولية ترويجها وتلقينها لأكبر شريحة ممكنة من الجمهور المتذوّق لفنّ الحكاية يعدّون على الأصابع ، وما تحمّلهم لتلكم المسؤولية إلا إيمانا منهم بضرورة استحداث مجال للتوازن والتوافق للمضيّ قدما نحو تأصيلها وجعلها فنّا قائما بذاته في أجندة التراث الثقافي اللاّمادي .

والذي يحمل على لسانه سرد الحكايا أو القصص الشعبية يسمّى في المشرق الحكواتي ، أمّا في المغرب العربي تطلق عليه تسمية القوّال ، ومهما اختلفت المصطلحات يبقى الهدف واحد والمسؤولية متعارف عليها .

     من بين هؤلاء نجد الحكواتي " ماحي مسلم صدّيق " ابن عاصمة المكرّة الذي يمنحك وبأسلوب منفرد رحلة دون تذكرة سفر إلى عالم الأحلام الجميلة والأماني القريبة ، حاملا في جعبته العديد من المغامرات والمفاجآت الموقعة بجملة من العبر والحكم الراسخة لاسيّما استحضار الذاكرة المنسية لكل من كاتب ياسين ، مولود معمري ، بشير بلحاج ومولود معمري وآخرون في قائمة كلّ من خلّفوا ورائهم إرثا خدم ويخدم الانسانية في مجالها الفكري الخصب .

عندما كانت البلاد على وشك فتح أبواب الانعتاق وتكسير قيود المحتل الغاشم ، بين جدران تلكم البيوت تواجد بيت بسيط متواضع يقع بشارع ( لي مور) بالحي الشعبي العتيق

" القرابة" المعروف حاليا لدى سكان ولاية سيدي بلعباس بحي الأمير عبد القادر ، بين تلكم الجدران تعالت صرخات مولود رأى النور في 20 جانفي 1960 ، دخل عالما لايزال مليئا بالمفاجآت ، صرخ المولود الجديد " ماحي" ليكون ميلاده ومسقط رأسه يتوسّط حوش المرحوم الشيخ زرقي أحد روّاد فنّ الراي ، كما كان يجاور منزل الشيخ المدني...، هكذا شاءت الأقدار أن يولد " ماحي" قرب أعمدة الساحة الفنية ، قبيل أن تغادر العائلة الى حيّ قمبيطة الشعبي .

ذلك المولود الذي لم يختر مساره الثقافي والفني بمحض الصّدفة ، كان أول احتكاك له بالفعل الثقافي مع فرقة " الأمل" تحت لواء الكشافة الإسلامية مع السيد " قادة بن سميشة" ، تلكم الفرقة التي كانت متعددة الاتجاهات من مجموعة صوتية ، فلكلور ومسرح ،ابتسم له القدر من خلالها ليعتلي الرّكح وهو لا يزال في ربيعة الخامس عشر (15 سنة) مع فرقة

" الفصول الأربعة" مع كل من " قادة بن سميشة" و" بن سعيد عبد القادر" ، " الزاهي قدور" و" رشيدة بن سميشة" العنصر النسوي الوحيد بالفرقة.

خلال الفترة الممتدة من1975 إلى 1979 برزت الفرقة بطابع غنائي استهوى جمهور الشباب ألا هو طابع الغيوان ، أين تم العمل على إنتاج العديد من الأعمال المسرحية أهمّها " العجلة " ، " التويزة" ، " الموزاييك" ، وأهم عمل مسرحي بعث فيهم الثقة كان تحت عنوان " الركاب" وقد حضره فقيد الفن المسرحي " عبد القادر علولة" أين شجّعهم ومنحهم الثقة ، كون العمل كان يتماشى وأبحاث المرحوم في حقل فن الحلقة .

الفترة الزمنية تلك كانت مثمرة ومفعمة بالنشاط ، الأمر الذي صقل مواهب الشاب المبدع

" ماحي صديق" الذي كان في فترة الاكتشاف ولم يخطط لمجاله المعهود له ، حيث سنة 1980 انضمّ إلى فرقة " الدّيزة" من الجزائر العاصمة وكانت تجمع العديد من الأعضاء باختلاف مشاربهم الثقافية وأصولهم الجغرافية ، نفس الأمر الذي فتح أمام الحكواتي المستقبلي رؤى وآفاقا واسعة ومنحهم العديد من التوجهات لاكتشاف ذاته .

عام 1985 خاض مغامرة مع عدسة الكاميرا من خلال النادي السينمائي الذي أشرف شخصيا على تأسيسه بمقر متحف سينما الموكسي بعاصمة المكرة ، وكان مرتعا خصبا للإبداع في عيون الفن السابع .

الجهد المبذول أثمر بلقاء مع المخرج " بلقاسم حجاج" مطلع التسعينات وحظي " ماحي" بفرصة مساعد مخرج في فيلم وثائقي حمل توقيع " المرأة طاكسي" الذي حاز على العديد من الجوائز الدولية ، وحظي ببث تلفزي على مستوى القنوات الفرنسية .

اشتدّ حنينه إلى الرّكح ليعمل على " السجين 7046 " كمساعد إداري للإنتاج، و" العودة" دائما مع المخرج " الحبيب مجهري" .

  في عزّ هذا الشغف والعطاء المتدفّق ، كانت تختلج بين جوانح " ماحي مسلم صديق" مغامرة الكتابة لتكون بداية مسيرته مع " التعسف" لبشير بلحاج الذي ترجمه إلى " ليالي سبتمبر" وكان العرض الأول متزامنا وذكرى رحيل الفقيد شعلة الفن الجزائري

 " كاتب ياسين"  وتميز النص آنذاك بعمق دلالاته وتلكم كانت أول تجربة لقاء للحكواتي بالجمهور بعد سنين من المغامرات والوجهات المتباينة ، كما جمعه عمل آخر في لقاء متجدّد مع " الحبيب مجهري" في عرض " المعزة واليتيم" مع فرقة الورشة الثقافية ، وعمل " كورال" بمعية المسرح الجهوي لسيدي بلعباس لمحمد دان والمخرج عز الدين عبار.

اتقانه سر اللعبة في الحكاية الشعبية كان مع مولود معمري حين عثر بالصّدفة في أدراج المكتبات على كتاب " ماشاهو" والكلمة ههنا تعني بداية الحكاية باللغة الأمازيغية ، ولم يشعر ماحي حينها إلا وهو يشتري الكتاب ليترجمه إلى اللغة الشعبية وعند ترجمته له أيقن كمّ القصص الشعبية من التراث الأصيل ، ليتقمّص فيها " ماحي " دور الحكواتي  أو القوال متصلا اتصالا مباشرا مع الجمهور ، ليقتبس سلسلة من العناوين ويترجمها إلى لغة شعبية

منها " الحمامة البيضاء" ، عروسة الشمس" ....

ولم يتناون في رحلة البحث عن المغامرة بين طيات التراث ، لتقوده الرحلة إلى لقاء الأديب الفرنسي" دانيال لودوك " في باريس من خلال ترجمة نص بعنوان " حجرة القهوة" وقد تولت نشره دار " أرماتون" الفرنسية ضمن مجموعة الرياح الأربعة .

وأهم التجارب التي خاضها آنذاك كانت مع الحكواتية الكندية " نيكول سيكال" عبر الأنترنيت أين عرض عبر الشاشة سلسلة من الحكايات الشعبية مستوحاة من التراث الشعبي بموسيقى لغوية جديدة يتفاعل معها الأطفال ، وتجربته مع البراءة جعلته يتعمّق أكثر ، كما عمل على حكاية " الطير اللّي منقاره أخضر" والتي رمز بها إلى تخليد الحرية.

وما يزال ذات الحكواتي يحمل على عاتقه مسؤولية تحميل التراث الثقافي والعمل على منح البعد الذي يستحقه ، لطرح الجديد في حلّه وترحاله ، أين سجل العديد من المشاركات الوطنية والدّولية ، أين شارك مؤخرا بتولوز الفرنسية ضمن مهرجان " ريو لوكو" هكذا اعتاد المنظمون تسميته منذ سنوات 1995 لضمان التقاء الثقافات والتواصل مع سحر المغرب العربي في العديد من الفنون من موسيقى ، رقص ، سينما وعروض موجهة للشباب ، مدّا لجسور التواصل مع دول المغرب العربي وتحقيق الغنى بشقّيه الثقافي والفني بين الشعوب المنشطة لذلكم الحدث ضمن حفلة الانسانية.

مصرّا على سرد حكاياته بلغة عربية محلية أمام جمهور ذواق لكلّ ماهو أصيل ليطرح الموروث المحلي من " بقرة اليتامى " ليترجمها له الممثل الفرنسي الجزائري الأصل

"رشيد أقبال" مسايرا إياه في الأحداث والتفاصيل .

كما شارك مؤخرا ضمن فعاليات المهرجان الدولي الثاني للأهقار شهر يناير المنصرم أين نشط المهرجان وعلى مدار أسبوع كامل بسرد حكاياته الشعبية مركّزا على استخلاص العبرة من التراث الأصيل مدركا مدى تعطّش الجمهور لسحر الحكاية وأبعادها .

كما سبق له المشاركة بعاصمة الغرب الجزائري وهران بدعوة من شركة المياه لتنشيط ورشات في الحكاية الشعبية وبالعديد من البلديات على مرأى جمهور واسع وعلى مستوى معالم تاريخية للباهية وهران .

كما تجدر الإشارة إلى أن " رميضة" عن بقرة اليتامى قد ترجمت إلى عمل مسرحي السنة الفارطة من إنتاج المسرح الجهوي لسيدي بلعباس ، وأسند العمل الإخراجي إلى الفنان

"  قادري محمد" ، في حين تقمصت دور رميضة الفنانة الواعدة " عدنان وهيبة" .

وجديد الحكواتي ومشاريعه تنحصر حاليا ضمن التنقيب في أساطير وحكايات أمّه من التراث الشعبي ، بالإضافة إلى إعادة كتابة أساطير كليلة ودمنة لابن المقفّع ، مع البحث الجديد الذي يتمحور حول إحياء تراث الجوّال الكبير " ابن بطوطة" الذي جال العالم من المغرب ، في هذا البحث يحاول اقتباس بعض الحكايات من سيرته المفعمة بالمغامرات .

وأمضى مؤخرا العقد للسنة الثانية على التوالي مع المحطة الجهوية للتلفزيون وهران ضمن حصة أستديو أطفال للمخرج " نو الدين بن عمر" وإشراف " مراد سنوسي" ، ولحد الساعة تمّ تسجيل عشرين حصة وتبث بشكل منتظم على القناة الثالثة كل يوم جمعة ، وتعدّ هته التفاتة طيبة نحو الاهتمام بالتراث الشعبي ووضعه في الإطار الأنسب له للترويج له وضمان الاستمرارية حفظا للذاكرة الجماعية للترويج للعديد من الحكايا لعلّ أهمّها

" لو كنت في غزّة" وهي في ذاكرة الشعب الفلسطيني مستوحاة من دراسات فلسطينية ونصوص قديمة ، " هبرة بنت السّبع " ، " هاتو بن هاتو " ، " سليمة بنت الفحام" وهي عمل مهدى لحوّاء ، " حديدوان والغولة" والقائمة طويلة .

وسيشدّ الرحال قريبا إلى ولاية قالمة للمشاركة ضمن فعاليات الأيام الوطنية لمسرح الطفل المزمع بعث فعالياتها خلال الفترة الممتدة من 20 غالى 30 من الشهر الجاري في محاولة طرح التراث الشعبي ومنح فرصة الاستمتاع بتراث الأجداد واستخلاص العبر في خانة أيام الحكاية والحكواتي.

كما يصر الحكواتي " ماحي مسلم صدّيق" على ضرورة الاهتمام بالتراث الشعبي ، داعيا الوزارة الوصية إلى الاهتمام أكثر بهذا الشق من التراث حماية للتراث وحفاظا على ارث الأجيال ، كما لابدّ من أن يدرج الحكواتي ضمن برنامج سنوي وألا تقتصر مشاركاته ضمن مهرجانات ولقاءات معينة ،وألاّ ننظر إلى الحكاية نظرة قاصرة ،  والاحترافية لا تأتي من العدم وإنما نتيجة الممارسة والشغف وضرورة اكتشاف الآخر ضمن حدود مختلفة لاتّحاد الرّؤى وتبادل وجهات النظر، وما اختيار هذا الحقل من الفن إلا قناعة شخصية وتأثر بالمقربين لا سيّما الوالدة التي عوّدته على سرد الأساطير والتفاعل معها لتكون رسالة نبيلة نحو آفاق واعدة  .

كما أشاد بدور المسرح الجهوي في تشجيعه لمجال الحكاية الشعبية ضمن فعاليات أول طبعة للمهرجان الثقافي المحلي للمسرح المحترف ، أين كان الدّعم مهمّا وفتحت مجالات الفكر الخصب للاحتكاك والتواصل ، فمسؤولية نقل التراث بين الأجيال المتعددة الأهداف والوجهات ليس بالأمر الهيّن بخاصة في ظل طغيان العولمة التي لابدّ من استغلالها استغلالا ايجابيا نحو أهداف نبيلة في حقل الفن والثقافة .

وعليه ،فان الحكواتي " ماحي مسلم صديق" يعدّ الأوفر حظا في تقلده مهام القوال أو الحكواتي مهما اختلفت المسؤوليات ، فالتواصل أمر لازم حيث لابدّ من دراسة وضعية الفنان الجزائري الذي يعدّ مادة خام في دعم الرسالة الفنية في ظل توفير المناخ الملائم وضمان التقدير والاعتراف بالمجهودات المبذولة .

بقلم : عباسية مدوني – سيدي بلعباس- الجزائر

التعليقات

  1. Image
    ماشاء الله . انا ابن المدينة ولا اعرفه. رجال الفن مغيبون. حفظك الله. ملاحظة * انا مهتم بالحكايات الشعبية. الجزائر

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية