مواضيع للحوار

الفاضل الجعايبي      الروحُ تسردُ مُعاناتها بين الثورة والتمرُّد

الفاضل الجعايبي الروحُ تسردُ مُعاناتها بين الثورة والتمرُّد

588 مشاهدة

الفاضل الجعايبي ... الروحُ تسردُ مُعاناتها بين الثورة والتمرُّد

بقلم: أنور محمد

المصدر: العربي الجديد – ضفة ثالثة منبر ثقافي عربي

 

المُخْرُجُ المسرحيُّ التونسيّ الفاضلُ الجَعايبي (1945) الذي أخرجَ أكثر من عشرين مسرحية منها ''كوميديا'' 1991، و"فاميليا" 1993، و"عشاق المقهى المهجور" 1995، و''جنون'' 2001، و"خمسون" 2008، و"يحيى يعيش" 2010، و"تسونامي" 2011، و"عنف" 2015، و"خوف" 2017، يُشَغِّلُ في عُروضه التي يُخرجها الْجَسَدَ وهو يَعْرُجُ بالروح، وعلى الروح، نحو المُتفرِّج. فهو يشتغل فيزيائياً عند الجسد حتى يبقى حيَّاً، فالدماغ- الجملة العصبية لا القلب هو الهدف، هو مَنْ سيرفع البلاء عنَّا؛ بلاء المستبد، المُتطرِّف الذي يلبسُ جُبَّة الدين، والعسكري الذي يلبسُ الثوب المدني؛ فيحكموننا "خمسونَ" مئةً مئات بالعنفِ والجنون. فيكثِّف وعيه لنكثِّف أحاسيسنا فلا يتصدَّع جدار الوعي فنموت ذبحاً كضحايا. فالدماغ/ العقل، وليس العينُ التي تبقى مشدودة إلى الخشبة، هو الذي يرى؛ يفكِّرُ، يقودُ الصراع. فالمجنون في "المجنون" لا تسكنه أرواحٌ شريرة؛ هو حاصل قسمة زائفة يعيش يحيى لحظة سلبٍ متعلِّقة بلا وجوده حين كان عاقلاً. مثله مثل "خمسون" سنة من الاستقلال؛ من استعمار وتقييد العقل فلا يفكِّر، لأنَّ هناك نظاماً يقصي، يسحل، يقتلُ كلَّ (أنا) مفكِّرة واعية لا تفكِّر في طاعته وخدمته.

الفاضل الجعايبي وشريكتُه جليلة بكار يتابعان، يرصدان تاريخ الوعي الإنساني بالحريَّة، كون الإنسان هو الذي يستدعي؛ يخلقُ الحريَّة، باعتباره ذاتاً فاعلة وليست ذاتاً مخصية تؤدِّي فرائض طقوس الدولة الإيديولوجية بـ(حريَّة) ولكن استعبادية. الجعايبي في مسرحه، وكما في مسرحية "خمسون"، يُقرِّر أنَّ الناس ليسوا مشبوهين، ويريد أن يرفع عنهم استدعاء الأيديولوجيا، فما يجري لزملاء وطلاب ومعارف المُعلِّمَةُ التي فَجَّرت نفسها في عملية انتحارية، هو خارج

"في "خمسون" كما في "تسونامي" و"عنف" و"خوف" وغيرها، يسعى إلى تعرية سياسات المستبد القاهر مهما كان معتقده"التصوُّر العقلاني، فهي ألغت وجودها باستدعاء الموت، ولكن الحياة تسري في الناس الذين يتمُّ استدعاؤهم، وتحاولُ أجهزة الدولة الأيديولوجية جَبرهم/ إجبارهم لمعرفة من دفعها لتنفيذ العملية. الجعايبي ضد الصوت الواحد، فهو في "خمسون" كما في "تسونامي" و"عنف" و"خوف" وغيرها، يسعى إلى تعرية سياسات المستبد القاهر مهما كان معتقده. فهو كمُخرج يقوم بعمليات تحليلٍ ونقدٍ وتعريةٍ لممارساتنا. فالصراعُ الذي يديره يقوم على أسلوب التقاطع بين الممثل والمتفرِّج لأنَّهما شريكان في العرض. لذا نرى أنَّ الممثِّل عنده سيقوم بأداء دورٍ صعبٍ وشاق مهما كانت مساحته الزمنية، وهذا ما يتركنا في حالة صحو: هل ما يمثله الممثِّل هو حقيقة أم باطل، وهل ما يجري هو صراعٌ يحدثُ الآن؟ وهل يقصده- يتقصَّدُه كلا المُمثِّل والمُخرج؟ ما هذه الإيماءات، الإحالات، الإشارات؟ ومن ثمَّ اكتمال الصراع وانغلاقه وفتحه- دحرجته. هل أنا أنا، وأنَّ الآخر ليس بديلاً عنِّي أو منِّي؟ أمٍ أنا هو في لحظة جبرٍ سياسي. المُخرج فاضل الجعايبي يضعنا في إحداث هندسي أنا + الآخر= العدم عند السلطة المستبدة مهما كان معتقدها، وفي مَشَاهِدَ بصرية وصوتية تبدو على الخشبة أكثرُ حرارةً من الواقع الحقيقي. واللسانُ/ اللغةُ هو من يصنعُ هذه الصور، هذه الأفعال، هذه الأجساد التي تتجادل مع الروح- روحها، وهي تسردُ معاناتها اللماذائية بين الثورة والتمرُّد، بين الوجود والفكر. وفي حركةٍ متواصلةٍ كأنَّها حركةٌ لا زيغان فيها. كلُّ شيءٍ عند الجعايبي مرسومٌ ومخطَّطٌ له ليُنفَّذَ بدقَّةٍ وبدون شذوذٍ أو شطَطْ، حتى لتستطيع أن تُميِّز كمتفرِّجٍ بين المكان والزمان الأيديولوجيين للأحداث، وبين المكان الواقعي. فأنت كمتفرِّج ستبقى يقظاً وليس نائماً، وقد ختمَ عليكَ بالشمعِ الأحمر كَيْ لا تنام.

الجعايبي في أسلوبه الإخراجي يريدنا أن نرى تلك القوَّة المهدورة في أعماقنا ولا نستخدمها، يريدنا أن نكون خارج دائرة الخوف والإقحامات والتحليلات والانحلالات التي تُوقعنا بها

"المُخرج فاضل الجعايبي يضعنا في إحداث هندسي أنا + الآخر= العدم عند السلطة المستبدة مهما كان معتقدها"السلطة. فالمُمثِّل دوره هنا رافعٌ للجهدِ الكامنِ عندنا كمتفرجين، فنحرِّره ليتحوَّل من الخيالي إلى الواقعي وهو يحرِّك جسده، وهو يقصُّ علينا- جليلة بكار لمَّا تكتب المسرح ليُخرجه الجعايبي هو عندها حكاية/ حكايات، ولكن لتقصَّها علينا قصاً يرتكز؛ وهذا ما يقبض عليه ويفرجينا إيَّاه الجعايبي، على بناء ترسيماتٍ حسِّية تكشفُ - وبحركة الممثلينَ، الحجابَ عن الحجابْ؛ فنرى. نرى القصَّ والحكيَ كما في "خمسون" و "المجنون" و"تسونامي" و"عنف" وهو يُمَسْرَحُ مسرحةً خالصةً بحبكةٍ متحرِّرة من السرد الروائي وإنْ كانت حكاية، وهي على الأغلب قصَّة، حكاية بمنتهى التغريب- وأحياناً الشطح؛ تظنُّه يشطح. ثمَّة قطعٍ للحدث/ الفعل- يليه وصلٌ من حيث لا تتوقَّع أن يُوصلَ أو يتَّصل. ثمَّ يتقطَّع وينوصل حتى لا ينقطع. هي فلسفة التوصيل حيث يشترك كل عناصر العرض المسرحي من الممثِّل إلى الموسيقى والديكور والإشارات السمعية والبصرية؛ في التوصيل والقطع، كأنَّ الجعايبي يصوِّر لقطات سينمائية، هي مشاهد حياتية فيلطمنا، يوخزنا، يشدنا من أذننا، لأنَّنا عند

"الجعايبي يريد من الجسد على الخشبة/ الركح أن يكون في وضع بيو- حيوي، وموسيقي. كما يريده أن يصطدم بالقوَّة ليختبر قوَّته المهدورة"الجعايبي مع جسدٍ يومي لا احتفالي، جسد يحب ويعشق ويخاف. ومقدامٌ شجاع، ويكره.. حتى لو كان في وضع المختل عقلانياً كما في "المجنون". طبعاً الجعايبي يريد من الجسد على الخشبة/ الركح أن يكون في وضع بيو- حيوي، وموسيقي. كما يريده أن يصطدم بالقوَّة ليختبر قوَّته المهدورة، وفي تناسق جمالي؛ صوتي وبصري مهما كان وضعه؛ حركته: تخشيبي، هستيري، هائج، مشدود، هزلي. فالأجساد هنا في المسرح ليست أجساداً قصصية، إنَّها أجساد حركيةٌ فاعلةٌ ترشحُ منها البطولةُ كما نرى الخيانة، وبمسرحةٍ صارمةٍ تتناسبُ والغاية السياسية والاجتماعية.

المُخرج فاضل الجعايبي مشروعه الإخراجي فعلٌ وجوديٌ ضدَّ اللاقانوني واللاعقلاني، ضدَّ المسالخ البشرية التي يُقيمها جزارو العقائد وهم يَتزيَّنون بحجَّة الفكر اللاهوتي أو العلمي.