مواضيع للحوار

الفن صنعة الآلهة..فؤاد معنا...

الفن صنعة الآلهة..فؤاد معنا...

1832 مشاهدة

الفن صنعة الآلهة

فؤاد معنّا

 

 

ما علاقة الفن بالآلهة؟.. ولماذا قالوا الفن صنعة الآلهة؟.. ولماذا يستحسن القول (اللهمّ يا ربّ العالمين. احفظ أبنائي بنات وبنين) على القول (اللهمّ احفظ أبنائي).. ولماذا كلّ الأدعية والابتهالات تقال بطريقة أدبيّة أقرب إلى الشعر والسجع.. الخ؟...

          .. لو فتحنا الباب ودخلنا نلج عتبات الأدب والفنّ بأنواعه (موسيقى غناء رقص رسم مسرح شعر قصّة  رواية.. الخ) نجد جميع هذه الآداب والفنون تحتاج من "المشتغلين" فيها ثقافة ومعرفة ووعي. لكن كلّ هذا لن يجعل هذا "المشتغل" أديباً أو فنّاناً.. بلّ تجعل فنّه وأدبه صنعة تنتج سلعة فنية أدبية تحتاج الروح لتكون اللوحة الفنية الأدبية النابضة بالإحساس.. إذ لا بدّ من توفر الركن الأساسي ليكون كذلك ألاّ وهو (الحسّ الفنّي والأدبي) ويقال (الحسّ الفني –أو- الأدبي) لكنّني أرجّح خطأ هذه الـ "أو" لأنّني أعتبر الحس الفني الأدبي واحد.

وهذه العبارة (الحس الفنّي الأدبي) تعتبر المعيار الرئيسي لمدى وصول وتجلّي العمل الفنّي والأدبي.. وتدعى (المَلَكَةْ الفنية والأدبية) لأنّها مساحة ذاتية من الإحساس يتميّز بها شخص عن آخر.

وهذه (الملكة الفنية الأدبية) هي من كانت في البدء، قبل التاريخ وحتى قبل اللغة.. لا بدّ كان هناك البعض الذين يتأثرون من بعض ظواهر الطبيعة ويحسّون بها بطريقة تختلف عن الباقي فتجدهم يقومون بفعل  يعبّرون به عن مدى تجاوبهم أو اعتراضهم أو خوفهم وإجلالهم لهذه الظاهرة الطبيعية.. وتجد الآخرين يرون هذه الظاهرة تمرّ دون ترك أيّ أثر لديهم.. كان هذا قبل تجلّي تلك المدارس التي تعنى بالأدب والفن.. ولا أدلّ على ذلك من حصيلة العصر الجاهلي المتجليّة بأدب وشعر منه المعلّقات السبع ولم يكن لديهم مدارس تعلّمهم أصول اللغة ولا مطارح البيان ولا حتى كانت قد حدّدت وحرّرت وبوّبت بحور الشعر..

ولو عدنا إلى بداية التاريخ.. نجد السوريين قد بدأوا ينسجون الأساطير التعليمية ويقومون بتقديمها للجمهور في مناسبات إلهيّة عديدة (إلقاء أو تمثيل) في معابد الآلهة على شكل خطاب موّجه من عبد لقوّة خفيّة قوية قادرة تعدّدت حينها ودعوها بالآلهة.. ثمّ وبعد غزو "كورش" لبابل. حملوا معهم هذه الطقوس والتعاليم إلى الأراضي الجديدة مثل اليونان وروما فيما بعد.. في اليونان دأبوا يعنون بهذه الطقوس أكثر، وذلك يعود لأسباب عديدة.. ربّما كان منها تناقضات الأرض الجديدة، وتعميم الأسطورة من المركز إلى الفروع، والبدء في تنوّع توجيه الخطاب الفني الأدبي!...

وهذا (الخطاب) هو ما يعنينا في الحديث: لتبيان الخطاب الالهي اولاً من فوق للأسفل

لنسوق حديثنا هنا ضمن الزمن بلا جغرافيا.. في البداية نجد بشراً.. متطلباتهم بسيطة لا تتعدّى الاستمرار في الحياة.. لا قوانين لا أنظمة لا ملكية.. فللمعادلة طرفين: بشر وقوّة خفيّة قاهرة تمثلّت آنذاك في الطبيعة بكلّ تجلياتها.. بدأ الناس يتعاملون مع هذه الطبيعة حسب طقوسها.. لكنّها كانت تتجلّى قاسية في مطارح عديدة.. فكان لا بدّ من خلق شعور لدى البعض يتمثّل بالتفتيش لفهم كنه الطبيعة، هذه القوّة الخفيّة التي لا ترحم في أكثر مطارحها.. هذا الشعور بحب معرفة الطبيعة خلق لدى هذا البعض نوعاً من حالة ردّ وتواصل مع هذه الظواهر تعبّر عن مدى إحساسه بما يجري حوله وشعوره بأن لا بدّ من إيجاد طريقة للتعامل مع هذه الظواهر الطبيعية. 

ونتيجة لإحساسة بالغبن في هذه المعادلة فقد بدأ يرتّب خطاباً (مسترحماً وفي نفس الوقت معترضاً على الغبن الذي لحق به) يتجّه به لهذه القوّة الخفيّة.. لكن على هذا الخطاب أن يكون لـه أسلوب معيّن من حيث الشكل يتميّز به عن الخطاب العادي في معادلة طرفيها من البشر.

وهكذا بدأنا مع خطاب فنّي أدبي طرفيه غير متكافئين.. موجّه من طرف أضعف يشعر بالغبن والقهر تجاه قوّة غيبيّة لا يجد لردّها من سبيل.. فدأب ساعياً في إخراج هذا الخطاب في أبهى صورة يمكنه الوصول إليها، وضمّن هذا الخطاب الفنّي الأدبي الشعور والإحساس الصادق النابع من معاناته في معادلة هو طرفها الأضعف.

وهنا يبرز السؤال التالي: الآلهة هي من صنعت الأساطير أم أن الأساطير خلقت الآلهة:

هؤلاء أصحاب الإحساس والشعور المتميّز الأوائل وجدوا أن يعمّموا ما يشعرون به بين أقرانهم من البشر شركاءهم الحقيقيين في طرف المعادلة.. وهنا بدأت مرحلة الصنعة الفنية الأدبية.. لمشاركة الغير في إحساسك لا بدّ من أن تجتهد محاولاً إيصال ما تفكّر به نتيجة إحساس أو شعور غير عادي لعمل غير عادي لم يدرج البشر على مزاولته بعد.. فكان على هؤلاء "المعلمين" الأوائل أن يفكّروا في ترتيب شعورهم ضمن طقس معين ما، يعرض لما يشعر به البشر حولهم ويتضمّن في نفس الوقت الشعور المتميّز لهؤلاء القلّة تجاه هذه الظواهر معالجين بإحساسهم ومعترضين في أكثر الأحيان نتيجة ما يشعرون به من غبن وقهر..

كلّ ذلك ضمن حكاية تستلهم خيوطها من طرفي المعادلة، وترتب أحداثها حسب ما ثبت من ظواهر لا تفسير شاف لها، وتتجلّى روحها حسب الشعور والإحساس المتميّز لمبدعيها، وتضع حلولها حسب رؤية هؤلاء المعلمين الأوائل المبدعين.. لو قابلنا كلّ ذلك مع الانتظام الشمسي والقمري وما يرافق ذلك من نظام تتقيّد به الطبيعة أو لنقل يتشابه لدرجة التقيّد نفهم كيف رّتبت هذه الحكايات حسب "روزنامة" طقسيّه متضمنّة خطوط تتناسب وهذه الطقسية.. ومع تتالي السنين تترسّخ هذه الحكايات لتجعل وترسّخ من أبطالها "ارباباً" تم دعوتهم "آلهة".. وهكذا نجد أنفسنا أمام الأسطورة التي ترسّخت عبر الأجيال لتخلق آلهة يتناسبون ونوع هذا الماورائي المبهم.. فأتت هذه الأسطورة شارحة تعليمية في مواطن عديدة تنمّ في مطارح عديدة عن طبيعة فهم هؤلاء المبدعين للمظاهر الطبيعية القاهرة وتتضمّن إحساسهم وشعورهم ورؤاهم فيما يعرضون..

في البدء كان الطقس الديني:

كان لا بد من مخاطبة تلك الظواهر الطبيعية القاهرة.. تجلّى هذا الخطاب بالطقس الديني الذي تبدّى بإقامة هياكل العبادة.. لمن؟.. لهذه الآلهة التي خلقتها الأسطورة.. وكان على هذا الخطاب الديني أن يلحظ عدّة عناصر رئيسية:

-         فهو خطاب موجّه من طرف ضعيف لجهة قويّة قاهرة.

-         على هذا الخطاب أن يكون حذراً وبإجلال في تناوله المادة القاهرة "الحدث الإلهي".

-         على هذا الخطاب تبيان شعور وحسّ هذا الطرف الضعيف تجاه موضوع الخطاب.

-    على القسم المنطوق في الخطاب "الحوار" اعتماد الرتابة والرصانة والاقتصار على كلمات أبلغ في معانيها بديعة في تتاليها رمزية فيما ترمي إليه مبتعدة عن الإسفاف والابتذال.

-         أن يكون الملقى الحركي منسجماً مع المُلقى المنطوق ومتفهّما لطبيعة الطرفين.

-    فهم المعادلة التالية.. المُلقى هو الخطاب بكل ما يتضمّن.. المُلْقى بسببه تلك القوة الخفية القاهرة.. المتلقي شركاء هؤلاء المبدعين من البشر.

-    تضمين "الملقى" بكل إحساس المبدع مع مراعاته القوة الخفية القاهرة "للملقى بسببه" وبنفس الوقت إيصال ما يريده مبدع هذا الخطاب "للمتلقي" من روح تعليمية شارحة ما أمكن ومرتبّة لممارسة هذا الطقس.

وبذلك تشكّل الطقس الديني ليكون بمثابة خلق لوحة فنية أدبية ابتدأت بمحاكاة القوّة الخفية متضمنّة شعور وإحساس المبدعين ضمن خطاب فني أدبي محاولاً دائماً الارتقاء في مضمونه وشكله بأبهى أسلوب فني أدبي.

ثلاثية المعادلة:

تدرّجت البشرية عبر مراحل عديدة لتطوّرها.. لكن وبإيجاز كبير يمكننا القول: أنّ البشرية انتقلت من المشاعية للتعرف إلى الملكية.. كان البشر في المشاعية يمثلّون طرفاً واحداً وتلك القوّة الخفية تمثّل الطرف الآخر ومع ذلك كان لمعادلة الطقس الديني ثلاثة أطراف (المُلقى متمثلاً بخطاب المبدع.. المُلقى بسببه تلك القوة الخفية.. المتلقي باقي البشر) ولدى انتقال البشرية من المشاعية إلى الملكية وظهور الحكّام من ملوك وأمراء وسلاطين كما نسمّيهم الآن (نجد أن هؤلاء الحكام قد بدأوا يأخذون مكانة الأرباب وأطلقوا على أنفسهم هذه التسمية) وتدريجباً أخذت هذه الحكام تتشارك مع طرف المعادلة (الملقى بسببه) حتى أضحى هؤلاء الحكام في أكثر الأحيان يحتلّون الحيّز الكبير لهذا الطرف.

تشعّبت مواضيع الفنون والآداب.. لكن بقيت تعتمد أطراف المعادلة الثلاثة مع أنه من المعروف أن أيّ معادلة لها طرفين هذا من البديهي.. لكن روعة الأعمال الفنية الأدبية تتمثّل في كون معادلتها تستلزم ثلاثة أطراف.

هذا الحسّ الفنّي الأدبي تابع يتناول جميع المواضيع المتأتيّة عن الشعور والحسّ بالحرمان والحنين والحب والظلم والقهر وو.. الخ. من هذه المواضيع التي تفرز طرف ضعيف تجاه طرف قوّي (ربّما ليس بنفس قوّة الآلهة) لكنّها تضمن توفّر طرفين ضعيف وقويّ بنسب مختلفة وطرف ثالث يكون بمثابة الشاهد على الحدث أو المعاناة يمثّل الطرف المتلقي.. لتكون شهادته بمثابة ما نسميه الانطباع او حتى النقد الفني والأدبي.

وخلاصة القول:

للمعادلة الفنية ثلاثة أقطاب.. ودون الغوص في الجزئيات نقول.. فعل نتيجة قوة قاهرة أو بعد او شوق أو حنين اوأو..  ومتأثّر بالفعل المبدع  وشاهد المتلقي.. هذا المبدع يحاول التعبير عن حسه وشعوره بخطابه الفنّي الأدبي محاولاً شرح أو رفع هذا القهر أمام شاهد هو متلقي الخطاب مضمنا خطابه الفني والأدبي كلّ ما يستحسنه من ضروب المدارس الفنية والأدبية.. لكن يبقى (الحسّ الفني الأدبي) هو المعيار الحقيقي.. من هنا يمكننا التعرّف أو تعرية الفن والأدب الهابط ذلك الذي لا يعنى بأقطاب هذه المعادلة ويتجرّد من كلّ حسّ صادق يمكن أن يتأثر به الضمير الإنساني.

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية