مهرجان ليالي المسرح الحر الدولي السادس 2011

الكاتب جان قسيس..محاولة عبور إلى فضاء المسرح التجريبي

الكاتب جان قسيس..محاولة عبور إلى فضاء المسرح التجريبي

1731 مشاهدة

محاولة عبور إلى فضاء المسرح التجريبي

جان قسّيس

أستاذ محاضر في معهد الفنون – الجامعة اللبناَنية

نقيب الممثلين في لبنان

قبل البدء أو الانطلاق في هذا العبور لا بدّ لنا من تحديد كلمة تجريبيّ لغويا على الأقلّ قبل الخوض في معالجة موضوع "المسرح التجريبيّ"، وانعكاساته خصوصا على مسار مسرحنا العربيّ، في ظلَ ما جرى ويجري على ساحة المسرح كلّ مكان من العالم، من تطَور واستخدام مفرط أحياناً للتقنيات الحديثة التي أفقدت المسرح الكثير من حميمَيته ودفئه .

دعونا أولاً نعي أنَ "التجريب" يعني لغويا تكرار التجارب وتنويعها. والتجارب – ومفردها "تجربة" – يعني البحث عن وجه آخر أو شكل آخر لفعل ما.. وفعلنا هنا هو التعبير عن الأفكار والرؤى والاختلاجات التي تعتمر بها النفس البشرَية، لتصبح عند من امتلكتهم لعبة الفنَ، هواجس يتصورونها ويبحثون بطرق شتىَ عن كيفّية إطلاقها من عُقالها، والتحرر من ثقل قيودها ومعاناتها.

لقد نحا المسرح العربيَ – شأنه دائماً – منحى الغرب في اعتماد وسائل جديدة للتعبير وخلق أنماط مشهدية مختلفة تحاول الوصول إلى المشاهد المعاصر الذي بات – مديويا للأسف - منخطفاً إلى عوالم أخرى من وسائل التواصل الإنساني من انترنت وفضائيات وتقنيات ما عاد تطورها يقف عند حدّ، ما أفقد المسرح سلاحه الأقوى ألا وهو "الدهشة" أو "الإدهاش"، في تعبير أوضح.

أجل !...قام المسرح أصلا على عنصر "الإدهاش" فاستقطب مشاهديه ببساطة ،منذ أن جرّت الثيران العربة الضخمة التي ابتكرها "تسبيس" الايكاري أواخر السابع ق. م، فراح يجوب قرى اليونان بعروض مشهدية أبهرت عيون من رآها وألهبت مخيَلته، وذلك على نحو قرن على ولادة الشكل الأدبي للمسرح، الذي كان يعتبر حتَى ذلك الحين شكلاً احتفالَياً صرفاً.

وحين وُلدت "المأساة" (أي التراجيديا) معطية للمسرح أي للشكل الاحتفاليَ، حدوده الأدبًية الأولى وشروطه، كان "ايسخيلوس" - والد المأساة - يقيم بدوره نمطا تجريبياً جديداً في حينه.وهو نمط لم تعتده النظارة (الجمهور) الأغريقية يومها.  وقد تطَور هذا النمط مع "سوفوكليس" ليصبح النموذج الأمثل للتراجيديا الأغريقية، واستمرّ هذا التطور مع "يوريبيدس"، نالت أهم شعراء المسرح الأغارقة، والذي ابتعد قليلاً عن نمطية التراجيديا الإغريقية ليؤسس لما عُرف لاحقا بالدراما، وهي شكل أدبي جديد للمسرح فرض نفسه على اتجاهات ومدارس مسرحية بدأت تُطل من عمق الفكر الإنساني، تثبت نفسها بإبداعات و"تجارب" غنية تستمر زمنا لتنحسر وتحل محلها إبداعات وتجارب أخرى، من المدرسة الطبيعية إلى الواقعية إلى الرمزية إلى الكلاسيكية الحديثة فالسريالية والعبثية وصولاً إلى آخرها ما اصطلح على تسميته "المسرح التجريبي".

لست أدري فعلاً كيف أفسر هذه التسمية، لكنني أسمح لنفسي بطرح السؤال: " أليس المسرح برمّته، ومنذ نشأته "تجريبياً" في منحى تطوره ومحاولة وصوله إلى الجمهور العريض؟ والجواب عندي بالتأكيد بلى/ نعم".

المسرح تجارب مستمرَة، تراكمت عبر الزمن وهمَها الأولَ والأخير ترجمة الهواجس الإنسانية والوصول إلى فهم النفس البشريَة وفهم معاناتها وفهم الوجود في المطلق، وتاليا وضع أسس للتلاقي مع الآخر والتفاهم معه وفتح حوار مستمر يتبادل فيه المبدع والمتلقي خلاصة تجاربهما وأفكارهما ومشاعرهما، للوصول إلى أجوبة تزيل اللبس عن تساؤلات تقض مضاجعنا جميعاً.

على هذه الأسس نشأ المسرح وتطور وحصد عشاقه ومحبيه حتى جاء "التجريبيون" المحدثون يقلبون الطاولة ويطرحون أشكالا غريبة للتعبير قلما تألف الجمهور معها أو اعتاد عليها. وانعكس الأمر سلبيا على اللعبة المسرحية كلها, فنفر المشاهد من عروض تعبّر حتماً عن هواجس صاحبها وأخلاقه ورؤيته، لكنّها لا تمثل للمشاهد ما على الخشبة سوى ملامح تجريدية يصعب فهمها معظم الأحيان. حتى على أعرق المسرحيين والنقاد المتخصصين فكيف بالمشاهد العادي؟

سوف يغضب هذا الكلام الزملاء المصرين على المضي في "تجريبهم" واستنباط طرق جديدة لملء آفاق خشبة المسرح،  لكنني أؤكد لهم, بمحبة وصدق, أنني احترم ما يقدمون واقدره, غير أنني أرى في حصر "المسرح التجريبي", الذي نسخناه مشوها عن الغرب, ضمن إطار المدارس والمحترفات الأكاديمية التي يمكن أن تجعل منه حقلا لاختبار المخيلة ومطواعية الجسد وتعميق علاقة الطالب أو المتمرن مع الخشبة. أما أن نحاول فرضه كنمط ثابت في مسرحنا العربي ونقيم له المهرجانات, فإنني أخشى أن هذا الأمر يبعد المزيد من جمهور المسرح عن الخشبة التي يحبها ويأتي إليها باحثا عن متعة مشهدية وبعد فكري يضيء له جنبات مغفلة من مسار الحياة والوجود من دون أن "يعقد" حياته ووجوده, كما أخشى أن يتحول هذا المسرح "التجريبي" إلى مسرح "تخريبي" يقوض كل ما بناه الرواد المبدعون في صرح المسرح الذي ينسجم مع مجتمعاتنا وبيئياتنا وقيمنا.

للتجريب ضرورة في إطار محدد, وله شروطه التي يجب أن يدركها فعلا من يخوض هذه الغمار, وأن يستثمر معطياتها وعناصرها الإيجابية في خدمة منهجية مسرحية جديدة تعيد إلى المسرح جمهوره الذي أفلت منه أو يكاد إذ لا مسرح ولا إبداع بدون هذا الجمهور.

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية