قصة قصيرة

الكاتبة سحر الشامي في ذكرى جريمة العصر  سبايكر

الكاتبة سحر الشامي في ذكرى جريمة العصر سبايكر

403 مشاهدة

الكاتبة سحر الشامي في ذكرى جريمة العصر  سبايكر

#خواطر محتضر

قصة قصيرة

#سحر الشامي

حازت هذه القصة على #جائزة أفضل نص في مهرجان فتوى الجهاد المقدس 2018، ونشرت في مجلة البيان الكويتية في العدد 585 لسنة 2019

كنت أسير بخطوات متعثرة وكانت الرؤية معدومة بالنسبة لي ، والشقوق والأحجار تتلاشى تحت قدماي ، غير أنها ليست السبب الذي يمهد لي الطريق ، تماما ، مثل انعدام الرؤية فلم يكن سببه حلول الظلام . كانت لحظة رهيبة جمعت كل الأضداد ، إنها الفيصل بين عالمين مختلفين ومتعاكسين تماما كاللونين الأبيض والأسود أو كاتجاهي الشرق والغرب أو كأديم الأرض ومياهها أو كطعم الحياة وطعم الموت . تساءلت بيني وبين نفسي هل مت ؟

 ثم واجهت روحي كل هذا الجحيم ؟!

هل من المعقول اني أصبت بسكتة قلبية وتوقفت حياتي !

وها أنا ذا في جحيم وسعر !

وهاهم زبانيتها بأشكالهم اللا بشرية يتهيؤون لتعذيبي . كنت أحاول طوال الوقت ، وبكل ما تبقى لي من قدرات ذهنية أن أنضم أفكاري ولكن عجزت مراراً عن فهم الحقيقة بصورة حاسمة وجدية ، غير أني كنت متأكداً أن الوصول إليها قريب وشيك . كانت شوارع المدينة تعرفني كما تعرف أبي قبلي وجدي قبله . عندما كان للوطن حساب وللقرابة حساب وللصداقة حساب ، فكانوا يلتقون في تلك الشوارع ثم يمضون على وعود قطعوها لحضور ولائم وأفراح وتعازي ووعود بمصاهرة ووعود بتبادل الزيارة ، ولكن مالي أراهم اليوم كل شيء فيهم يميل إلى الجحود والنكران . أحسست بالمدينة مأخوذة بسكينة الحقد ، وغضبها المكبوت يطوقني من كل جانب ؛ ضرب شتم وايادي تجبرني بعنف على السير ، وذلك ما مهد لي الطريق !

 معصوب العينين ، وهذا سبب انعدام الرؤية وموثوق اليدين إلى الخلف . اولست على حق حين اوهمت اني بين اهوال الجحيم . لحظة بعد أخرى يسير كل شيء نحو الأسوأ ، ولأقرب المعنى أكثر لقياس حجم شقائي . أصف الظلام الذي أخذت به روحي ، على حين غرة ، بأنه احلك سوادا من العتمة التي سببتها الخرقة المطوية حول عيني . كيف يمكن المفر من كل تلك القيود وفوهات الأسلحة المتجهة نحوي والتفاف الزبانية حولي ، كانت فوهة السلاح تسارع من دقات قلبي كلما لامست جسدي . تلك العذابات جعلتني أدرك كم إن الموت رحيم ، ووجدت فيه أمنيتي وهدفي وملاذي . ولأني أجده قريباً جداً واكاد اتحسسه ، ببديهة المحتضر ، فأنا أشعر بقوة حضوره لحظة اضطراب جسدي وشدة خفقان قلبي وانكسار آمالي وشدة آلامي وصمتي المطبق وصمت السائرين معي . إلا أنه سرعان ما يلهى عني ، يحدث ذلك عندما تبتعد فوهة السلاح عني فتتراجع معاناته عن ذروتها . ويتكرر المشهد مرة اخرى لأصبح لعبة الحياة والموت . استطعت ان اخمن إني ورفاقي في بر واسع ، فالشمس كانت تلسع جسدي باشعتها مثل السياط من كل جانب ، وهناك سمعت لغات غريبة وأخرى مألوفة قريبة وبعيدة لا يصدها حاجز ، بدأت تزداد وأصوات سيارات آتية من بعيد ، ثم تتوقف هنا وهناك . في ذلك البر كان الرعب يطل من كل جانب وصار العرق يسيل مني بغزارة، وصرنا مجبرين على السير صفا واحداً بلا التفاتة أو كلمة. لقد تغير طعم كل شيء. صرت اعالج رعبي بالصبر لئلا يسخروا مني مع إن ما يحدث كان سخرية لا يمكن تحملها. تمنيت لو اصرخ بأعلى صوتي: -إخوان انا عراقي، انا ابنكم، أخوكم، لابد أننا التقينا يوماً في شارع أو باص. ربما جلسنا على المدرج نفسه لمشاهدة لعبة رياضية، أو في مقهى ندخن السجائر ونشرب الشاي، ربما وقفنا مراراً في كراج النهضة كلا ينتظر العودة لمدينته. ربما حضرنا مهرجان بابل وشاهدنا سوية فعالية تراثية على معبد ننماخ وربما سبقتك لالتقاط صورة أمام أسد بابل أو قد تكون سبقتني إلى ذلك، وربما التقينا في رحلة إلى إلى ملوية سامراء أو اهوار البصرة وذي قار وميسان، وربما تناولنا وجبة طعام في المطعم نفسه وفي الوقت نفسه. هل حقاً نسيتم كل ذلك؟ وأعجب من ذلك، تثقون بمن لا ينتمي إليكم، ترى كيف قفزت تلك الفكرة الرهيبة إلى عقولكم لأول مرة؟! وكيف عقدتم العزم عليها؟ ولكن وأسفي انكم كحال المجنون ينطق:

 -فأما الهدف فليس ثمة هدف

 -وأما العاطفة فليس ثمة عاطفة .

شعرت من صميم القلب بأحاسيس لا يمكن تجاهلها ، فبدأت أدرك ... أنها نهايتي الحتمية وسمعت صوت محرك الشاحنة لتسير بنا في طريق لا أعلمه . خطر في بالي أنها قافلة الموت مع إنها تهدهدنا برفق ولين مثل أم حنون . الموت يتربص بي ويحاول أن يتصيدني ... - انت هدفي وسأبلغ هدفي ... - حسنا ، لن اقاوم ، ولا آبه إذا وعدتني الحياة بامتلاك حصة فيها ، ولا أريد ان تعدني بأي شيء ، فأنا ارفض أن أعيش الحياة من دون أن أذوق طعمها ، فالحياة عندي إباء لا يُذل ووجوه لا تمل وقلوب لا تكسر وأرواح لا تقهر ... وإلا فلا . كان هبوطنا من الشاحنة مضنيا بسبب انعدام الرؤية وهذا ما جعلني استسلم للأيادي الخشنة أن تطيح بذراعي بعنف يثير في النفس البغض لأهوي نحو الأرض آخذا الحيطة والحذر مخافة الارتطام بحجر أو صخر . كانت الشمس تلسع جسمي بحرارة لاذعة والعرق يسيل من رأسي وجبهتي نحو عينيّ المعصوبتين مثل شفرات راحت تشرح جفوني ، وكم تمنيت لو امسح جبيني وعيني بكلتا يدي ، وصرت أحتمل بصبر نافذ ، صبر مر ، مفروغ منه ، ولكني استطعت ، في نهاية الأمر ، أن امسح نصف وجهي الأعلى بما يتاح لي من كتفي . يا لها من رحلة قصيرة ، كانت دنياي خضراء وعالمي بهيج فيه أحلام ورؤى : حبيبة المستقبل ، زوجة المستقبل ، أطفال المستقبل ، أطفالي الذين سيحملون إسمي ، وبيتي الذي رسمت تصاميمه قبل أن أحصل على الراتب الأول . صارت والدتي بعدها تهزج وتصفق كلما راودتها فكرة زواجي وكم كنت اتظاهر بامتعاضي وتمنعي واتهرب عن ناضريها وأنا أخفي ابتسامة الرضا . سمعت صوت إطلاقة ، هي ليست الأولى . أستطيع أن أحدد مداها بأربعة أمتار أو خمسة أمتار وهذا يعني ان بيني وبين الموت عشرون رجلاً تقريباً . هذه وحدة قياس جديدة ! وملائمة للوضع هناك ، ليس هذا فحسب فأنا أستطيع أن اقدر الزمن المتبقي من عمري ؛ إذا استغرق قتل كل رجل ورميه أقلها ثانية ؛ فهذا يعني ان بيني وبين نهايتي عشرون ثانية ... أنا من الذين يشعلون شمعة بدلاً من أن يلعنوا الظلام ، أحب المروج الخضراء والصحراء القاحلة بعدالة . وأقصد الظلال حتى لا اسب لهيب الصيف . كل هذا كان يقودني إلى ما يسر ويبهج . في اللحظات العسيرة المتبقية أحسست أن الدم الذي يجري في عروقي تحول إلى رصاص مصهور ، وبدأت المثاقب تحفر رأسي ، فكنت أسمع صرخات رفاقي تخفق متتالية ، تخرس متتالية ، تضيع تحت الماء ... متتالية . لم يكن في فمي مساحة لصوت استغاثة ، لقد أصبح بيني وبين الموت لحظات عجلى : حيناً تطول لما أشعر باضطراب اوصالي وخفقان قلبي الشديدة وحينا تستمر لما اراني عاجزاً لا ارجو فرارا ولا للحياة اختيارا ولا للموت بدلاً .. وحينا .... تختصر . أبي.. أمي اعلما اني مضيت إلى الموت كشعاع شمس انزاحت الأرض عنه وقت الغروب لولا الانكسار المفاجئ الذي حال دون ذلك . لم يكف صمتي وقيودي ، لقد قابلت الجحود بالطاعة والخبث بالرضا والشتيمة بالصبر مثل ولد يتحمل سلطة الأخ الأكبر .لم يكف انه سلب مني حقوق ضيافتي عليه بقوة والعجيب إن فعله كان مع سبق الإصرار . لم يكف انه تفنن في قتلي حتى صار لموتي أسبابا عديدة فصارت روحي تضطرب من ولوج الطلقة داخل رأسي وهول السقوط الجبري المرعب نحو المياه التي فتحت لي احضانها لتطويني كليا . لم يكفيه كل ذلك ولكن الضغينة التي انطوى عليها قلبه دفعته ؛ في خضم تلك الأفعال ؛ التي يبدو أنها لم تشف غليله . إلى ركلي بقوة أودت بي إلى الماء ... كانت تلك الركلة هي انكسار الشعاع ، انكساري الأكيد ، هي الحد الفاصل في ترددي بين الحياة والموت . كانت ركلة غادرة استفزتني وانفردت في استفزاي ، حيث اني بلا حول أو قوة وبلا وقت يكفي لأرواء ثورتي . إلا أن قلبي عتم على أثرها الجارح منذ اللحظة التي هويت فيها إلى الماء .. إلى الأبد . هذا هو المي الأبدي ، ألمي الذي احمله بين جنبي بعد موتي وحتى بعد تفسخ جسدي . أبي . . أمي : أنا يوم الحساب كالموءودة إذا سُئلت بأي ذنب قتلت