دراسات أدبية

بين الحقيقة العلمية والمعرفة السائدة في المجتمع

بين الحقيقة العلمية والمعرفة السائدة في المجتمع

965 مشاهدة

بين الحقيقة العلمية والمعرفة السائدة في المجتمع

... ق. ق. ج. " #أمل " للقاصة #سحر الشامي إنموذجا

#داود _سلمان _الشويلي

نشرت الطبعة الالكترونية من جريدة (الحقيقة) في العدد 1708

 دراستي عن ق. ق. ج. للقاصة سحر الشامي. شكرا الشاعر علاء الماجد

  

الكتابة الأدبية، شعر، رواية، قصة قصيرة، تحمل كل شيء من المجتمع الذي تصدر منه، عادات، وأفكار، وأساطير، وخرافات، ولا معقول، وأخبار، وحوادث، ...الخ، مما يدور في أروقة ذلك المجتمع، مخفي أو معلن. وهذه هي وظيفتها الأدبية، الأساسية أمام المجتمع الذي تكتب له.

   أوقفتني هذه القصة القصيرة جدا بعد قراءتها، عدة مرات، للسيدة "سحر الشامي"، متأملا ما فيها من خبر يحمل بين طياته معلومة، علمية، أو غير علمية، وانما هي من المعرفة السائدة في المجتمع. "وقد ظل نقاد الادب يحلمون دائما بالتوصل الى صيغة يكون فيها الأدب عَمَدا من أعمدة نظرية المعرفة" ( سعيد الغانمي – فاعلية الخيال الأدبي – منشورات الجمل -2015 - ص7 ). وكان الأدب يحمل من ضمن ما تحمله رسائله، المعرفة الانسانية، كما كتبت مرة دراسة عن الفائدة الانسانية من الشعر، وهو الحصول على المعرفة. المعرفة هذه تأتي بشكل الحقيقة المبرهن عليها مرة، وبشكل غير الحقيقة التي تحتاج الى برهان يؤكد حقيقتها، مرة أخرى، أي أن تكون صادقة مرة، أو غير صادقة، مرة أخرى، المهم انها معرفة يمكن أن نحصل عليها وبعدها يمكن التحقق من صدقها.

   وبين الحقيقة العلمية والمعرفة السائدة في أي مجتمع، اختلاف كبير وبيّن، وهذا الاختلاف، في الكثير من الأحيان، يصل الى عقل الانسان المتعلم الذي يكاد أن يكون عقلا علميا محض، ( ليس بمعناه الفلسفي الكانتي ). ومن هذه الأمور، الاختلافات الحاصلة في تصور بعض الناس، متعلمين أو غير متعلمين، خارج نطاق الاختصاص لتلك المعلومة، في " أن العين تحتفظ بآخر صورة رسمت عليها قبل الوفاة ". ومثال على ذلك: ان القاتل الذي يراه المقتول في آخر لحظة، تبقى صورته في حدقية العين، وتحتفظ بها، لفترة معلومة، او لحين تلاشي عناصرها، بسبب الموت.

   هذه المعلومة متداولة بكثرة بين الناس، ومنهم العام والخاص، وما زال الكثير من الناس يصدقون بها مثل صدقهم لأي معلومة أخرى مبرهن عليها، إذ انهم يعتقدون بأن حدقية العين عند المقتول تحتفظ بصورة الشخص الأخير الذي رآه. ولما كانت شخصية القاتل هي آخر شخصية يراها المقتول، فإن حدقية العين تحتفظ بها. ولما كنت غير مختص بالطب، وطب العيون خاصة، فقد دفعني ذلك الى البحث والتقصي عن هذه المعلومة، ومصداقها في مواقع الانترنيت، خاصة انها تفيد في معرفة القاتل الحقيقي لمن احتفظت عيناه بصورة القاتل.

   بحثت كثيرا عن هذه المعلومة في مواقع النت، فوجدت الرأي العلمي عنها، وهو عدم احتفاظ حدقية العين بصورة آخر شخص يراه المقتول، وإلّا لتوصلنا الى الكثير من القتلة.

***

   يؤكد مدير المركز الوطني للطب الشرعي، واستشاري الطب الشرعي د. قيس القسوس: خطأ المعلومة، وأنه لا صحة علمية ورائها، إلّا انها معلومة متداولة مجتمعيا.

   (( ويقول د. القسوس: " فور وفاة الإنسان تبدأ العين بالجفاف الخارجي خلال عدة ساعات والقرنية، وانخفاض ضغط العين بشكل مضطرد مع زمن الوفاة ".

   فميكانيكية عمل العين ( الابصار) استند عليها د. القسوس بإعطائه تفسيراً علمياً كيف نرى وما يحدث بعد الوفاة، الامر الذي يعزز نفي الطب الشرعي للقول السائد " إن آخر صورة شاهدها المتوفي تبقى مطبوعة داخل العين، ويمكن للطبيب الشرعي ان يستنبطها من الداخل مقولة غير حقيقية وغير قابلة أصلا للنقاش ".

   ووفق د. القسوس حتى نرى الصورة يجب ان يكون الانسان حيا، وعند الوفاة تتوقف الاجهزة الرئيسية الثلاثة وهي الجهاز الدوري، التنفسي والعصبي، وهذا يعني ان الجهاز العصبي لا يعمل وبالتالي لا يوجد اية تفاعلات عصبية تنقل الصورة الى الدماغ.)).(مواقع الكترونية)

***

النص:

   ((تسمَّرَ خلف القضبان ينتظر مصيره، لاتهامه بجريمة القتل خنقا، لم يدخر المحامي جهداً لإثبات البراءة، لكن الجميع كان ضدَّه، الأدلة والشهود، تمَسَّك بآخر أمل له بعد قرار بالتشريح، أخيرا وجِدَت صورة أحدهم مطبوعة على عين الضحية.)).

   لما كان الأديب، والقاص خاصة، هو عين المجتمع لما يدور فيه، وما يدور فيه من معلومات متداولة تدخل حيّز العلم، واللاعلم في الوقت نفسه، أي الخرافة، والاسطورة، واللامعقول، والمعلومة الكاذبة.

   فأما العلم فمعروف طريقه ويصل الى الناس بكل بساطة، وأما اللاعلم فهو بحاجة الى اثبات، ودليل يؤكده. وان ما يتداول بين الناس من معلومات غير علمية هو بالضد من العلم.

   أمامنا معلومة وردت في النصوص الأدبية، رواية، وقصة قصيرة جدا. الرواية هي "شارلوك هولمز" في رواية "ارتور كونان دويل"، والقصة القصيرة جدا هي قصة " أمل " للقاصة "سحر الشامي"، والتي وردت في مجموعتها القصصية "امنيات مؤجلة"، التي صدرت من دار المتن لعام 2020، حول حفظ صورة المجرم في عين القاتل بعد مقتله.

   واذا كان "شارلوك هولمز" قد طرح هذه المعلومة في إحدى الروايات، فإن القاصة "سحر الشامي" قد طرحتها في قصتها القصيرة جدا "أمل"، إذ انها تنقل الخبر عن المجتمع الذي تعيش فيه، ولا يهمها صدق أو كذب المعلومة تلك، إذ تأتي كحل لمتهم في جريمة قتل، دون أن يكون هناك تعارضا بين الصدق الفني والصدق الواقعي، ونظرة القاصة لهذه المسألة، وانما جاء الصدقان متوازنان – على أقل تقدير –في نصها القصير جدا.

   لقد اختارت القاصة التوازن بين الصدق الفني والصدق الواقعي، فجاءة بهذه المعلومة بوعي منها، أو بلا وعي، عند كتابتها في نصها القصصي. والصدق الواقعي هو وجود معلومة – خاطئة طبيا - تدور بين الناس، عن احتفاظ عين الشخص الميت بآخر صورة رآها، وهذه المعلومة تستخدم في النص على انها صادقة علميا، طبيا، فتضطر القاصة الى استخدام حالة التوازن بين الصدقين.

***

 من عناصر القصة القصيرة جدا المفارقة التي تأتي في ختام القصة، وهي ما تسمى بقفلة القصة المفاجأة. ومن معاني المفارقة هو "تجاهل العارف" وهو ما يصدق على نصنا المدروس في أن القاصة، ربما، جاءت بالمعلومة المنتشرة في المجتمع على انها فرضية علمية لا لبس فيها، في آخر نصها القصصي وثبتتها في نصها القصصي، دون البحث عن صدقها، أو عدم صدقها، بقدر ما تخدم نصها القصصي، وغير ذلك فهي غير معنية به بقدر عنايتها في فنية النص.