دراسات أدبية

قراءة في قصة  ذاكرة مكان مملوءة بالحنين

قراءة في قصة ذاكرة مكان مملوءة بالحنين

901 مشاهدة

قراءة في قصة  ذاكرة مكان مملوءة بالحنين

#للأديبـة _القاصة _فــداء _سـلـوم  

#بـقـلـم _عباسيـة _مـدونـي _من _سـيدي _بـلـعـبـاس _الـجـزائــر 

     في قراءتنا المتأنيّة للنصّ السردي الموسوم بـ " ذاكرة مكان مملوءة بالحنين" للأديبة القاصّة " فداء سلوم " من أرض الياسمين ، دمشق العذراء ، نلفي تحليقها الحر في سماء البوح العذريّ والأنيق ، وكأنّها تنحت الجمال وتؤثث للعطاء في ذروة المشاعر الصادقة ، من حنين للمكان وللأشخاص ، من وفاء للزمكنة ( الزمان والمكان ) ، ومن تلوين للمشاهد والتصوير الفني لغة وإحساسا وتشريحا للذاكرة والذكريات قاطبة.

   تشعر مباشرة بكاتبة النص السردي وهي تعيد دفّة الزمان والمكان على حدّ سواء ، محرّكة شخوص قصتها وفق نمط سرديّ مرن اللغة والأسلوب سلاسة وتوظيفا رمزيا غير معقّد ، من خلال سردها تغذّي الوجدان وتنثر عطر الحنين ، محافظة على خطّ سير أحداثها دونما تنميق لاحداث التجاوب مع الآخر أي المتلقّي وهو المتعطّش لزمن جميل ولّى وعبق ذاكرة مكان موشومة بكل التوق والجمال والحب والصدق ، محمّلة ذاكرتها الطفولية مسؤولية نقل الأحداث بكل أمانة ومصداقية ، معلنة من زوايا متعدّدة وفائها لـ " مرت العم " الحنون ، ولكرمها وطيبتها ، مستحضرة أجمل ما جمعها بها على طول زمن راق ، دونما أن تتناسى استعراض بعض الحماقات الطفولية من تمرّد وحلم عفيف ، دون أن تفقد تلكم الطفلة تفاصيل الأحداث ودون أن تتناسى نسجها للأحلام ، هي المدركة تماما  لقيمة العطاء والصفاء والحب في أصالته ، أصالة أهل الضيعة .

    ومجدّدا ، نلفي القاصّة " فداء "  تمنح بقعة نور للمتلقّي ، تحمله على التحليق ضمن فضاءات ما تزال تراها نقيّة وشاهقة ، تأمل ألا يطالها نفاق الوصل ولا غدر الأحبّة ولا حتىّ تلوّن   المشاعر ، ضمن ثراء سرديّ أكثر شفافيّة وعفويّة ، ناقشة على جدار القلب والروح أمانا وسلاما ، مانحة إيّانا كمتلقين صورا من ألبوم الذاكرة والزمن والناس والملامح ، حتى تعمل على أن

ترتّق داخلنا فرحا وتنحت ضحكة في زمن مهترىء ...فاسحة لنا المجال بألا نستبدل شغف اللحظة ولا لهفة الآن ، إلا وقد تشبعنا من غزارة الطرح واستعراض الأحداث لتفرش لنا نعيما في ذكرياتنا ،مختزلة العقبات حتى نضىء ، فتلكم الأمكنة مكتظة ومكدسة في روحها حتى تهبها مؤونة عمر وزاد الغد ، حتى تهيم بنا في أرض ولاّدة ما تزال تفرز الجمال والثّمر الطيب من اصالة الناس التي ما تزال تحافظ على الأصالة .

  في تدويرها الحكاية وحدة متكاملة من تناسق الأحداث  ، وجزل العطاء ونورانية البوح ، وإن ثمّة صوت بين فقرة وأخرى ، فإنّك تلفي ضجيجا أنيقا على مقاس بُعْد الحكاية ، وفسحة للتأمّل والتساؤل ومساءلة الذات ، ونحن ننتظر القادم بكل شغف ولهفة ، شادّين على قبضة الأمل تحقيزا للعطاء أكثر  ، وإنسانية أكثر إشراقا .

"ذاكرة مكان مملوءة بالحنين"

للأديبـة القاصة " فــداء سـلـوم "

    بكت ... وناجت وريقات العطرة ، وعرانيس الحبق الغاري والزعيتري ، وغنت لأصحاب الدار وصدح ذلك الصوت العتيق الجميل :

رحت على الشام لسلّي همومي ، لقيت الشام تلياني همومي ، عتبي على أمي وأبي يلي جابوني للعذاب ...

  اشتهرت بصوتها الجبلي القوي ، وقد أكون  ورثت خامة الصوت ورنته منها ، صوت نحيبها ومناجاتها لورود الدار وصل لمسامع من سكنوا بدار العائلة ، أتاها صوت (امرأة عمي) التي سمعت حزنها من خلف جدار فصل بين الدارين!  جدار لم يمنعنا من القفز فوقه قفزة واحدة !   لنكون بأحضان بيت عمي وزوجته الكريمة الحنونة ،  رعتنا وحنت علينا وكأننا أولادها  ، فنحن من جيل كل ولد عندها؛ ما تؤكده ستي (الختيارة زينة كل الحارة ) .

ان الدار كانت واحدة ، تضم الاخوة مع زوجاتهم وأبنائهم ، وكبير العيلة له سلطة على الجميع  ، له هيبة  ، له كلمة واحدة ينطقها فتنفذ فورا عند الكل ،  لا يخالفه بالرأي أحد لأنه الكبير بالقامة والقيمة والشأن.

   كبرت العائلة وزادت قساوة الحياة وبدأت البساطة تتبخر  ، لكن المحبة بقيت منقوشة بالقلوب ؛ بالرغم من وجود حيط البلوك الذي قسم بركة المساحة  ، وأبعد البيوت لكن قلوبنا البريئة لم تعترف بتلك الحواجز أبدا ،  ولم تعترف بالبوابات وأقفالها ، وكنا نتجاوز بقفزاتنا كل العوائق ، لنعيش أسعد أيام حياتنا بظل الحنان والبسمة المرسومة أبد الدهر على وجهها الملائكي .

لم نكن نناديها تانت  ، ولا خالتي ، ولا عمتي كنا نصيح: يا "  مرت عمي"  نصرخ من خلف جدار برلين  ، من خلف سور الصين العظيم الفاصل بيننا ويأتينا صوتها الرفيع الحنون:  أهلا ، أهلا ، فوتوا على البيت الأولاد  ،  هون اقعدوا كلوا معهم فتة الحليب ، وبالرغم من حصار أمي ونهيها  ، ومنعنا من تناول الطعام عند الأرقام كان من المستحيل ان نسمع كلامها  ، وسنأكل ونشبع عند " مرت عمي" الأصيلة  ، المحبة والسخيّة ، ولسان ستي يردد: الرب يرزقها الصحة والعافية ، ما في بعينها شي ، كنت أدقّق  النظر بتلك العيون الصغيرة لأرى ما فيهم ، والحمد لله لم اجد بهم شئ عيونها سليمة جميلة ، كبرتُ وفهمت أنها الكرم  ، البركة  ، القربانة التي نتقاسمها لننال الفرح ، لننال المحبة ، لنألف الاحتضان من قسمات وجهها المتعب الذي لوحته شمس حزيران ،وتموز، وآب  وأعطته اللون البرونزي الطبيعي دون الحاجة للبحر ولشطه فلا وقت لديها للاستجمام حالها حال أمّي ، لا تتعب ،  وإن تعبت تحتضن أولادها وأقربائهم ورفاقهم ليعود لها نشاطها وحيويتها ليعود لها المقدرة على عراك كل يوم  .

 

    ينادينا صوتها الكريم من خلف جدار الفصل لتناولنا سطل العيران المبروك ، أسمع صوتها وكأن ملاك الرب ينادي علينا  ، أركض قبل اخوتي لأرد عليها وأدقّق النظر بيديها الجميلتين جمال الطبيعة الاخضر ، بعيوني تلك الأصابع المتعبة من جهد السنين، والبسمة الخضراء مزروعة بعيونها ، تجاعيدها الرقيقة الدقيقة دقة ورقة قلبها  ، لم يغير الزمن الصعب من طيبتها من لهفتها  ، كانت الأمّ  لكل صغير وكبير ، كانت المستقبل لأكثر من خمسة عشرة ( 15)  ولدا بالدار يلعبون يصرخون  ، يتصارعون ، يتشاتموا ليتصالحوا بعروس من خبز التنور مدهونة بالزبدة الاصلية منثور فوقها السكر تؤكل بنهم ، بفرح ، وبسعادة منقطعة النظير بعد تعب يوم رهيب قضيناه بدارها مع بسمتها ومحبتها .

"مرت عمي" احتضنت دموع ستي بشهر ايلول شهر عودتنا لقاسيون الشام ،شهر المدارس والجامعات ، شهر الوحدة والغربة بقلب ستي التي ستبقى لوحدها مع صقيع كانون وثلج آذار الهدار ،ستبقى تغني باكية خائفة الموت قبل ان تلتقينا بحزيران ، وبالسنوات الصعبة وبالحرب الطاحنة بين الكنة والحماية ترفض ستي ان تأتي معنا للشام الدافئة مفضلة صقيع الضيعة وهوائها الشرقي المثلج الذي سبب لها روماتيزم قوي قلّل حركتها وزاد تمسكها بركبتها اليمين المتورمة ، كان شتاؤها بالقرب من صوبية مرت عمي الحنونة ، يأتي أيلول ويحين موعد رحيلنا تاركين ورودا زرعها أبي  بالدار، لتبكي ستي على فراقنا فتناديها الحنونة من خلف الجدار الفاصل :

ستي أمّ  وجيه نحنا هون لا يهمك بيرجعوا بالصيف ،وبتازغف ورود الدار بضحكة الأولاد

ولا تبكي يا ورود الدار ضلي غـنّي بغيابهم .