دراسات أدبية

قراءة في كتاب  المسرح المغربي قبل الاستقلال

قراءة في كتاب المسرح المغربي قبل الاستقلال

1153 مشاهدة

قراءة في كتاب  المسرح المغربي قبل الاستقلال 

للدكتور #مصطفى _بغداد (1)

 بقلم: #كريم _الفحل _الشرقاوي

 

جاء التصميم المنهجي لمحتويات كتاب المسرح المغربي قبل الاستقلال ( 400 صفحة من الحجم المتوسط )  متناغما مع المنهج التاريخي التحقيبي و التوثيقي الذي توسل به الدكتور مصطفى بغداد  لمداهمة و معاقرة قضايا وإشكالات المسرح المغربي في مرحلة الاستعمار الفرنسي الإسباني للمغرب الأقصى .

و هو تأطير منهجي يروم من خلاله الباحث مقاربة الظاهرة المسرحية في فترة الحجر و الحماية و استكناه الوعي الناظم لخصوصية هذه المرحلة في اشتباكها و تفاعلها مع المكونات السياسية و السوسيوثقافية لمغرب ما قبل الاستقلال بل ولمراحله الضاربة في القدم حيث سيؤشر الباحث على الصدام الحضاري و التثاقفي الذي مارسته الدول الوافدة و المحتلة للمغرب القديم و خصوصا القرطاجنيين و الرومان الذين شيدوا المسارح في قرطاج و وليلي وغيرهما من حواضر شمال إفريقيا و مارسوا الفن المسرحي بمرجعيته الإغريقية  حيث أنه " من المؤكد أن الأمازيغ تأثروا بالقرطاجنيين و من بعدهم الرومان و مارسوا فن التمثيل القائم على الأناشيد و الحركات الراقصة التي تؤدى بها الطقوس و الشعائر الدينية  التي ترمز إلى التوسل بالآلهة " (2).

غير أن هذه التقاليد المسرحية الوافدة تلاشت مع الزمن بفعل اغترابها عن المحيط السوسيوثقافي و الديني للمغرب القديم و التي لم تتمظهر آثارها سوى في بعض الطقوس و الفرجات الشعبية الأمازيغية كما أنها لم تتبلور و ترتقي إلى أشكال مسرحية بفعل الخطاب الديني الإسلامي الذي سيصهر بثقافته التوحيدية كل أسباب الصراع بين الإنسان و قدره .. وهو الصراع المأسوي الميثوسي الذي يشكل بنية المسرح الإغريقي الروماني . غير أن المغاربة الذين سيتشبعون بالقيم الثقافية الأمازيغية العربية الإسلامية سيتوسلون في تلك الفترة ببعض الفرجات و الطقوس الاحتفالية .. و هي فرجات شعبية حملت داخلها عناصر الحكي و الحوار و الغناء و الرقص و الإنشاد و التقليد و الأداء و الإيقاعات الاحتفالية الجماعية ... و يؤديها في الأسواق و الساحات العامة والمواسم بعض الرواة و المداحين و  القوالين و الحكواتيين الجوالين ... الأمر الذي دفع ببعض الباحثين المعاصرين إلى استبعاد تصنيفها ضمن خانة الأشكال و الظواهر ما قبل مسرحية و اعتبروها ظواهر فرجوية مسرحية لا أرسطية غربية تحمل داخلها خصيصة التمسرح théâtralité  التي تشكل جوهر كل فرجة مسرحية إنسانية كيف ما كان منبتها .

و قد تعرض الباحث بإسهاب لهذه الظواهر الفرجوية كالحلقة و البساط و سلطان الطلبة و سيدي الكتفي و عبيدات الرمى ... إضافة إلى طقوس الطوائف الدينية و الاحتفالات و الرقصات الشعبية ... مشيرا إلى اغتراف بعض الكتاب و المبدعين و المخرجين المسرحيين المغاربة المعاصرين من معين هذه الفرجات التراثية و توظيفها في أعمالهم المسرحية التأصيلية كما هو الشأن بالنسبة "للطيب الصديقي" و"الطيب العلج" و "عبد الكريم برشيد" و غيرهم .

مرحلة التأسيس :

عند تناوله بالتحليل لمرحلة الـتأسيس أثار الباحث إشكالية التوثيق و ندرة المخطوطات و المصادر ذات الصلة بالتأريخ و التوثيق لمرحلة دقيقة من تاريخ المسرح المغربي مستعرضا تعدد الآراء و تضاربها بشأن سنة 1923 كانطلاقة محتملة للممارسة الحقيقية للحركة المسرحية بالمغرب مؤكدا بأن زيارة الفرق الأجنبية و المشرقية في بداية القرن العشرين كفرقة "محمد عز الدين" و "فرقة فاطمة رشدي" و "فرقة نجيب الريحاني" و بعض الفرق الإسبانية و الفرنسية كان لها دور كبير في انتشار الفن المسرحي في المناخ الثقافي المغربي بشكل عام سواء لدى المهتمين او الممارسين أو الجمهور. إضافة إلى إسهام بعض صالات العرض التي كانت تبنى إرضاء للجالية الأجنبية المقيمة بالبلاد في إنعاش الحركة المسرحية كما هو الحال بالنسبة لمسرح "سرفانتس"  الذي تأسس سنة  1913 و "المسرح البلدي بالدار البيضاء سنة  1920 " و "المسرح البلدي بالجديدة  سنة 1925 " و كذلك بعض القاعات السينمائية و الساحات العمومية و مسارح الهواء الطلق التي كانت بدورها تستقبل بعض العروض المسرحية في بعض المدن العتيقة .

هذه المدن التي شهدت ميلاد بعض الفرق المسرحية وخصوصا في صفوف قدماء التلاميذ . "كجمعية قدماء مولاي ادريس بفاس" و "الجوق الطنجي للتمثيل العربي بطنجة" و "الجوق المغربي للتمثيل العربي بالرباط" و "الجوق السلاوي للتمثيل بمدينة سلا" و "جمعية قدماء التلاميذ بالدار البيضاء" و "فرقة المغرب التطواني بتطوان" و "قدماء ثانوية محمد الخامس بمراكش" ... و غيرها من المدن المغربية التي عرفت دينامية مسرحية بفعل عوامل خارجية وداخلية لعل أهمها توافد الفرق المسرحية الأجنبية و العربية و بناء المسارح و دور العرض و حيوية النسيج الجمعوي المتمثل في نوادي قدماء التلاميذ الذين لعبوا دورا محوريا في تأسيس الفرق و الأجواق المسرحية التي كانت تنتج أعمالا مسرحية تستند في معظمها إلى نصوص مترجمة أو مقتبسة من الآثار الدرامية و الأدبية الأجنبية و المشرقية على حد سواء .

حيث نهلت موجة الترجمة والاقتباس من أعمال كلاسيكية غربية كأعمال موليير و شكسبير و غيرهما . كما نهلت من الموروث التاريخي و الأدبي العربي الإسلامي  حيث تراوحت مساحة الاقتباس ما بين الترجمة الخالصة و استلهام الأحداث الرئيسية و مغربة النصوص بتبيئتها و توطين قضاياها و أطروحاتها في التربة الثقافية المغربية . كما نشطت في هذه المرحلة بعض محاولات التأليف المسرحي لدى بعض الممارسين كما هو الحال بالنسبة "لمحمد القري و عبد الواحد الشاوي و محمد الحداد و عبد الخالق الطريس و عبد الله الجيراري" و غيرهم من الذين حاولوا القبض على أهم القضايا التي يحبل بها الواقع الاجتماعي و السياسي المغربي. غير  أن محاولاتهم هاته اتسمت في معظمها بالخطابة و السرد التاريخي و المباشرة و تقليد الأعمال المشرقية إضافة إلى طغيان العنصر السياسي التحريضي على حساب البعد الفني و الجمالي.

العوائق السياسية و السوسيوثقافية  :

عرفت الحركة المسرحية المغربية في هذه المرحلة من تاريخها مجموعة من العوائق و المثبطات التي كانت تحد من فعاليتها و حضورها و إشعاعها كالموقف السلبي لبعض الفقهاء و المحافظين من المسرح و الفن عموما .. و انعدام الإمكانيات المادية و قلة الخبرات و الكفاءات الفنية و التقنية .. و أزمة النصوص المسرحية و ضعف البنيات التحتية و إحجام العنصر النسوي عن المشاركة في الأعمال المسرحية .. إضافة إلى كون أغلب الممارسين المسرحيين كانوا من الهواة و الطلبة و و المثقفين و الفقهاء الإصلاحيين و الحرفيين الذين كانوا يعتمدون على إمكاناتهم الخاصة .

غير أن أهم العوائق تجسدت بالخصوص في طول يد الرقابة الاستعمارية التي كانت تتفنن في الحذف و البتر و التشويش و منع بعض العروض المسرحية .. و محاصرة ونفي المسرحيين الوطنيين و اغتيال بعضهم كما هو الشأن بالنسبة للشهيد " محمد القري " . نفس الدور السلبي لعبته الأحداث السياسية المتعاقبة كإعلان "الظهير البربري" و نشوب الحرب العالمية الثالثة ... و غيرها من الأحداث الدولية و الإقليمية و المحلية التي انعكست على مغرب الحجر و الحماية .

الأمر الذي ساهم في التضييق على الممارسة المسرحية من طرف الرقابة الاستعمارية نظرا لالتحام الحركة المسرحية بالحركة الوطنية و بأهدافها النضالية و التحررية و التوعوية الأمر الذي دفع بأغلب الباحثين المعاصرين إلى اعتبار المسرح المغربي في تلك المرحلة أداة لبث الوعي السياسي التحرري و استنهاض الهمم لمواجهة الاستعمار .

التأطير و المأسسة و الامتداد :

 رغم ان الممارسة المسرحية في هذه المرحلة لم تتجاوز الهواية و العشق إلا أنها عرفت بعض المبادرات الجادة من طرف بعض الأسماء الفاعلة "كعبد الواحد الشاوي" و "عبد الخالق الطريس" و غيرهم من الذين حاولوا تكريس ممارسة مسرحية احترافية لكنها لم تحقق أهدافها إلا في سنة 1952 حيث تأسست آنذاك "فرقة تابعة للإذاعة المغربية" و هي أول فرقة مغربية تعمل بنظام التعاقد ما مهد لميلاد "فرقة التأسيس المغربي" التابعة للشبيبة و الرياضة سنة 1953 الأمر الذي سيفتح الباب للاهتمام بالأسس و القواعد النظرية و التقنية و استحضار عامل التأطير و التكوين كمحفز إيجابي للنهوض بالحركة المسرحية المغربية ليتم إنشاء ماسمي آنذاك بمراكز التعبير في كل من الدار البيضاء و الرباط و فاس و الجديدة ... كما تأسس المركز المغربي للأبحاث المسرحية التابع لمصلحة الشبيبة و الرياضة تحت إشراف "أندري فوازان" و "عبد الله شقرون"  و "عبد الصمد الكنفاوي" و "الطاهر" و"اعزيز" وغيرهم الأمر الذي انعكس إيجابا على المستوى التقني و الجمالي للأعمال المسرحية .. ويكفي ان نذكر مجموعة من الأسماء التي استفادت من هاته الأوراش المسرحية "كالطيب الصديقي و الطيب لعلج وعبد القادر البدوي" و غيرهم من الشباب الواعد آنذاك لندرك تأثيرها الحاسم على صيرورة المسرح المغربي و امتداده إلى مرحلة ما بعد الاستقلال .

و لم يكتف الباحث "مصطفى بغداد" برصد إرهاصات  التاسيس وسيرورة الممارسة المسرحية المغربية في مرحلة ما قبل الاستقلال بل حاول القبض أيضا على آليات النقد المسرحي في تلك المرحلة  إضافة إلى شروط التلقي و رهانات المسرح الشعري و دينامية المسرح الإذاعي معززا كتابه القيم بوثائق و صور و شهادات و ملصقات و جرائد و مجلات تعكس بجلاء المجهود التوثيقي الشاق و الجبار الذي تكبده الراحل "مصطفى بغداد" لدراسة و توثيق مرحلة تأسيسية هامة في تاريخنا المسرحي المغربي الحديث . 

هامش :

(1) الراحل الدكتور مصطفى بغداد ناقد و باحث في المسرح و شاعر غنائي كبير و الأمين العام السابق للنقابة الحرة للموسيقيين المغاربة . أعتز بتدريسه لي لمادة اللغة العربية بثانوية التادلي بالرباط .

(2) مصطفى بغداد - المسرح المغربي قبل الاستقلال -  منشورات الرهان الآخر -  مطبعة دار القرويين الدارالبيضاء .