قصة قصيرة

قصة قصيرة ..سأنام حيث ينام لوار..بقلم القاص محمد عزوز...

قصة قصيرة ..سأنام حيث ينام لوار..بقلم القاص محمد عزوز...

1659 مشاهدة

قصة : محمد عزوز

اتخذ قراره بالوصول المبكر إلى الدائرة التي يشغل رئيساً لأحد الأقسام المهمة فيها ..
فاجأ الجميع بقراره ، حتى المستخدم الذي كان لايزال يقوم بأعمال تنظيف وترتيب المكتب بادره :
ـ خير ياأستاذ ..؟
ـ خير .. ليس هناك سوى الخير ..
ـ المكتب لم يجهز بعد .. عفواً .. ماذا يمكنني أن أفعل ..؟
ـ لاعليك .. سأبدأ الآن عملي فيه .. إنما عليك أن تفعل ذلك بسرعة ، وفي وقت أقصر في الأيام القادمة ..
ـ لم أفهم ..
كان من الصعب أن يشرح تفاصيل قراره لكل من حوله ، ولذلك بدأ يسمع تعليقات ساخرة تصله عن قصد أو دون قصد ..
ـ ياأخي شو شايف الدائرة بمنامه ..
ـ إي والله الكرسي مابتهرب ..
ـ إي شو صاير بالدنيا .. كل رؤساء الأقسام يصلون بعد الثامنة .. وهو يصل في السابعة تماماً ، مع دقات بيك بن ..
حتى سائقه ، أو لنقل السائق الذي خصصه المرآب لمرافقته ، اعترض بايجابية هو الآخر :
ـ ليس هناك من مشكلة ياأستاذ ، سأركب الباص مع باقي زملائي العمال كي أصل في الموعد المحدد ، يمكنك العودة إلى توقيت الوصول المناسب كما بقية الرؤساء ..
ضحك لاقتراحه ولم يجب ..
إلا أن الأمر لم ينته عند هذا الحد ، فلقد استدعاه المدير العام ، وبعد أن مد يده مسلماً ، دون أن يكلف نفسه بإنهاض عجيزته عن كرسيه كجزء من عادة إجتماعية متوارثة أو لنقل شكلاً من أشكال الإحترام لشخص القادم ، قال :
ـ أنت ياأستاذ تستهتر بمكانتنا بقدومك المبكر هذا ، ياأخي نحن قلنا أن هذا النظام في الدوام يطبق على العمال فقط ، ويستثنى من ذلك رؤساء الأقسام والمدراء وبعض المعاونين ، فجئت أنت لتكون على رأس من يطبقه ... الوصول المتأخر قليلاً فيه بعض القيمة ياأستاذ ..
ـ أنا لاأنقص من قيمة أحد ، وأنا لاأرضى أن يصل سائقي في باص وأنا أصل بعده ، وأسميه سائقي ..
ـ ياأخي السائق للعمل ضمن الدوام ، وعليه أن يصل بوسائلنا العامة ، وفي الوقت المحدد ..
لم يصلا إلى قناعة مشتركة ، ولم يستطع المدير العام أن يزجر هذا الموظف المتمرد أكثر ، فهو لم يخالف في شيء ، هو يصل إلى الدائرة بشكل مبكر ، يصل مع الأذنة والسائقين وباقي العمال ، وهذا ليس مخالفة ، ولم يعثر على صفة تناسب هذه الحالة ..
لكن الأمر لم ينته عند هذا الحد ...
صار حديث المكاتب وهمسات الموظفين ، ولم يردعه ذلك عن الوصول المبكر ، بل تعمد أن يصل قبلهم ، ولم تنفع احتجاجات السائق نفسه ، وتعبيره عن ألمه ، لأنه سبب له كل هذا الإحراج ...
استدعاه المدير العام إلى مكتبه من جديد ، وحاول أن يفهم سر تصرفه الأرعن .. أثاره وصف ( الأرعن ) فصاح في وجهه :
ـ كيف تسمون ذلك رعونة ياأستاذ ...؟
استغرب هياجه ، فحاول أن يستوعب غضبه :
ـ عفواً ياأستاذ أحمد .. أنا لاأقصد .. لقد خرجت عن المألوف .. فكر قليلاً فيما تفعله ..
وساد أجواء الدائرة هرج ومرج ، بدؤوا يرسمون قصصاً لحواره مع المدير العام ، ويصورون عروضاً قدمها له للعودة إلى توقيت دوامه السابق ..
ومنهم من قال أنه عرض عليه أن يداوم في الساعة التي يريد ، وأعلن أحدهم أنه ضاق ذرعاً بالمشكلة ، فقدم إغراءات أخرى كي ينهيها بأي ثمن .. لقد اهتزت صورة الإدارة بما يكفي ، ولايريدها أن تهتز أكثر ..
كان إعلان ذلك الخبير الفرنسي الذي صدم سائقه أحد فلاحي بلدته يطفو على سطح ذاكرته كل صباح ، فيسمع صوته وهو يعلن بالفرنسية الصريحة :
- non. Pa du tout . je dors ou Loir dort .
فصار يردد العبارة في طريق عبوره عبر ردهات الإدارة إلى مكتبه ، وبعض موظفي الدائرة يهمسون :
ـ لقد جن الأستاذ .. إنه يهذي .. بل يرطن بلغة غير عربية ..
سأله البعض مستفسراً عن معنى مايقول ، أهمل السؤال ، ثم عاد في اليوم التالي يرددها بالعربية :
ــ لا .. إطلاقاً .. سأنام حيث ينام لوار ..
ولما لم يعرفوا أنها ترجمة للعبارة الفرنسية ذاتها ، فقد عادوا إلى إسقاطات مبالغ فيها لحال الأستاذ ذاته ..
وكان ذلك طبيعياً ، لأنهم لم يكونوا يعرفون أن الأستاذ أحمد عمل مدرساً للغة الفرنسية في إحدى مدارس بلدته منذ أمد .. وأن الظروف اضطرته أن يكون ترجماناً غير محلف أمام رئيس المخفر فيها لحادثة الإصطدام تلك ، وأن يوقع على ضبط الحادث الذي برئ فيه الخبير وأدين سائقه .. وأن ذاك الخبير لم يوافق على التوجه دون سائقه إلى المدينة القريبة للنوم في أحد فنادقها ، لأن السيارة ستحجز ، وسينام ( لوار ) سائقه في سجن المخفر حتى الصباح ، فأعلن معترضاً :
ــ لا .. إطلاقاً .. سأنام حيث ينام لوار..
وظل الأستاذ أحمد يعلنها ، بالفرنسية تارة وبالعربية تارة أخرى .. وحفظها أغلب موظفي الدائرة دون أن يفهموا معناها ، وصاروا يرددونها بشكل ببغائي ..
غادر مدراء ، وأتى آخرون ، أعفوه من رئاسة القسم ، أعادوا السيارة لمرآب الدائرة ، تركه سائقه ، كلفه مدير صاعد برئاسة قسم آخر دون أن يهتم لطعون الآخرين ، أعاد له السيارة والسائق ، عاد إلى سابق عهده في الوصول المبكر ..
جددوا في قصة الوصول تلك ، وعلت همسات أخرى ، ولكنه ظل يعلن في رحلة عبوره اليومية إلى مكتبه ، وربما في رحلات عبور أخرى بين مكاتب الدائرة :
ــ سأنام حيث ينام لوار ....

(من مجموعتي القصصية الرابعة " حروف الدمع " الصادرة في دمشق 2010 )

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية