مواضيع للحوار

كتب الأستاذ أنور محمد   أي مخرج مسرحي نريد

كتب الأستاذ أنور محمد أي مخرج مسرحي نريد

692 مشاهدة

كتب الأستاذ أنور محمد  ... أي مخرج مسرحي نريد؟

المصدر: ضفة ثالثة

 

إلى متى سيبقى الفعلُ الإخراجي المسرحي العربي فعلاً إنشائياً نمطياً - لا فعل تمرُّد ثوري إبداعي يجابهُ فيه المُخرجُ إحداثيات الصراعَ الإنساني الذي تمتلئُ به النصوص المسرحية ومؤثراتُه ومحمولاتُه فيلدَ الحريَّة، باعتبار أنَّ الموت هو حاملُ الميلاد، فينزع تلك السلاسل والجنازير الملتفَّة حول رقابنا وأيادينا وأقدامنا.

فمنذ ولادة المسرح العربي عندما وُلِدَ، ونحنُ نكرِّرُ حركة التمثيل التقليدي بشكل رتيبٍ وممل. ولا مُخرِجَ يكسرُ سياقات العرض، فنبقى نكرِّرُ ذات الجريمة الإرادية عن سبق إصرار وتعمد؟ هل نحتاجُ إلى طبيبٍ يعالجُ هذا المرض العقلي بصفتنا لا عقلاءَ ولا مجانين، ولا تسكننا؛ أو تسكننا أرواح شريرة، فنرى، نتفرَّج، نشوف عرضاً مسرحياً يليقُ بكرامتنا.

في مراجعةٍ لما كان عليه الفعل الإخراجي المسرحي العربي، نرى أنَّه مع (آلاف) العروض التي تمَّ تقديمها على خشبات المسارح العربية؛ وأكادُ أجزمُ – خاصةً في نصف قرنٍ مضى من تاريخه، أنَّ المخرجين الذين (علَّموا) وشقوُّا مساراً مسرحياً تحررياً خالياً من أيِّ أمراض عصبية وعقلية هُم قلَّة على كثرتهم.

مع هذا؛ فنحنُ نريدُ مُخرِجاً مسرحياً ينضمُّ إلى هذه القلَّة، يُخوِّفُنا، أو يُثيرُ فينا الشفقة على مَنْ يُعذِّبهُ. نريد مُخرجاً يقضمُ ويضمُّ ما انقضمَ وضُمَّ من الأرض العربية إلى غير العرب، نريدُ مُخرجاً لا يخوضَ حرباً غير حربنا، وأن ينتصر للعدالة. نريد مُخرجاً مسرحياً يعرفُ ويُدركُ أنَّ الأرض العربية سائبة، وثرواتنا سائبة، وأنَّنا سائبون مسيَّبون، وأنَّنا - حكوماتنا تُقزِّمُنا فلا نتعملق؛ لا نُفكِّر ولا نتعلَّم وهي تسحبُ رصيدنا الثقافي، فلا نُشارك في الثورات العلمية، ولا في الثورات المعرفية. نريدُ مُخرجاً لا يُشارك الأنظمة العربية في تدميرها لممتلكات الأمَّة، وإنْ أحدٌ احتجَّ فتزهق روحه، أو يصرخ معها؛ يصيرُ يعوِّي عواءً عقائدياً لتخريب ما بقي من خلايا نَشِطة في العقل. نريدُ مُخرجاً قائداً يرفض استقالة العقل العربي، فيفصل ما بين الفكر

"المخرجون العرب الذين (علَّموا) وشقوُّا مساراً مسرحياً تحررياً خالياً من أيِّ أمراض عصبية وعقلية هُم قلَّة على كثرتهم"

والسلطة. فالفكر لمَّا صارَ فكراً كان ضدَّ الاستبداد والقمع؛ لأنَّه فكرٌ وجوديٌ لاشيء مُقدَّساً عنده سوى الإنسان وحريته، حتى لا تتوثَّن السلطة فتحجر على العقل، فلا يفكِّر، إذ لا معبودَ إلاَّ إيَّاها. وهذا ما يُفترض أن يأخذ به المُخرجُ؛ أن يمسك السلطة وهي تصطدمُ - تصدمُ الثقافة، فلا تتركنا نحلِّقُ كالبجع فوق بحيراتنا لتتمكَّن من تدجيننا وترويضنا على إنَّها تحرِّرُنا من الحالة الوحشية. المُخرِجُ يقبض عليها ويجرِّمها حتى لو استشهد من أجل ذلك - والتجريمُ في المسرح هو التحليلُ النقدي لخطاب السلطة القائم على الجبر، وعلى الاغتيال السياسي. فالسلطة كما في مسرح أرسطوفانيس، ويوربيدس، إلى بريخت، وآرتو، والجعايبي، تعملُ على تهميش الإنسان، وسلب فاعليته، وهي ضد كل جدل، فما بالك إذا كان الجدلُ نقدياً وثورياً. يوربيدس من قبلْ؛ وقبلَ ألفي عامٍ، فعلها وتحوَّل إلى قدوة؛ إلى نموذجٍ للمُؤلِّف المُخرج الذي نَقَدَ السلطة، نقدَ رؤوس الأموال التي ورَّطت أثينا في حروبٍ ليست حروبها كشعب ودولة. نقدَ وفضحَ وعرى أصحاب هذه الرؤوس، ليس لأنَّه ابن صاحب حانة، وأمه بائعة خضار، ولكن لأنَّه صاحب مشروع نهضوي، صاحب (أثينا) قويَّة، أثينا العِلم والمعرفة، لا أثينا الشهوة الذئبية للمال؛ أثينا التي قامت فيها وعلى مسارحها وملاعبها المباريات المسرحية والرياضية والموسيقية التي تؤسِّس وتُجذِّر للعلم والحكمة والشجاعة؛ لشعبٍ؛ لأمَّةٍ تلعبُ حين يجبُ اللعب، وتقاتلُ حين يجبُ القتال ذوداً عن الأرض والعِرض.

يوربيدس، وأسخيلوس، وأرسطوفانيس، كما سقراط وأفلاطون وأرسطو، صنعوا عصراً عظيماً، وما يزال لأثينا وللإنسانية. ما الذي يمنع من أن يصنع العقل العربي حاضره ومستقبله، يصنعُ العصر العظيم لإنسانه، وعبر خشبة المسرح، فالإنسان بطبعه نبيلٌ، والتربيةُ - والتربية

 

"يوربيدس، وأسخيلوس، وأرسطوفانيس، كما سقراط وأفلاطون وأرسطو، صنعوا عصراً عظيماً، وما يزال لأثينا وللإنسانية"

المسرحيةُ مَنْ يُجوهرُ هذا الطبع. ومُخرجونا، وليس مؤلفونا، أو سياسيونا، هُم مَنْ ينقذنا ويأخذنا من سَطوة وسُوط الخطاب الفكري للنظام المستبد، فيمنع، وعلى الخشبة، إنتاج التسلط في الخطاب العقائدي العربي، سواءً استمدَّه من التراث، أو من الحداثة. لأنَّ كل مستبد؛ كل المستبدين يرون أنَّهم وكلاء الله في الأرض، وأنَّ طاعتهم من طاعة الرب، وهنا يكمنُ الجذرُ الأرعنُ للتسلط والاستبداد. وهذا ما دفع من قبل يوربيدس، لأن يملأ مسرحه بالشخصيات "الرثة - الرثية" ليعلو صوتها فوق صوت الطاغية. فالإنسان كانَ ما كانَ موقعه السياسي والاجتماعي هو جسدٌ وروح، وعندما يتكلَّم وعلى المسرح؛ فبلغةٍ حدسية لا تقوم أفعالها على الحظ، أو الوحي، أو الإلهام، بل على الصراع على الأرض؛ هذا لكَ وهذا لي - حتى لا يقع ضحية للمهرجين والدجالين.

لنعُد إلى الآن - هنا، ونتأمَّل أحكام القيمة مِنْ مثل: هذا مُخرجٌ يساري، أو يميني، بريختي، أو أرسطي، عبثي، وجودي، عدمي. ولننظر إلى المُخرِج حين يقدِّم لنا إنسان الخير وإنسان الشر؛ يقدِّمُ مسرحَ (الروح)، مسرح الفكر الحي الذي يؤسِّس الوعي الذي يستثير الصراع بين سلطتين، حيث يُفترض أن تتجسَّد الروح وتقاوم؛ تقاوم ذاك الغليظ المتصلِّب، الثقيل، السطحي. فالفرجة المسرحية هي قراءة حقيقية لحركة ترابط وتفاضل واختفاء وظهور وتطور الصراع بين إنسان الخير وإنسان الشر؛ بين فعلين، بين إدراكين حسيَّين، فلا يبقى الفعلُ (وصفياً) كما في معظم العروض على خشبات المسارح العربية. فمثلاً مُخرجٌ مثل الفاضل الجعايبي، أو فواز الساجر، أو عبد القادر علولة، أو منير أبو دبس، لا يمكن أن يبقوا محايدين، أو مُردِدين ببغائيين، أو مصفقين ومروجين لوقائع (القهر) السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تديره الأجهزة القمعية لمافيات المال، أو للدولة البوليسية، وتحزُّ وتجزُّ بسكينها رأس إنسان الخير - أي يروجون للعنف الديني والعائلي والحقوقي والثقافي والمدرسي والإعلامي. هم ضدَّ العنف، ضدَّ تشريعه، وضدَّ كُهانه، وضدَّ فقهائه، الذين يعتبرون أنَّ الإنسان كان في حزب الخير، أو حزب الشر، ما هو إلاَّ (رماد). في المسرح كما في الحياة؛ الإنسان ليس رماداً، كما يرى ويدَّعي مؤلفو المهزلة الإيديولوجية الدينية والسياسية، الإنسان روحٌ ومادةٌ آيلة إلى رماد، ولكن أن يُعامل منذ ولادته وحتى موته على أيدي هؤلاء المؤلفين المتفيقهين على إنَّه رماد، فهذا ما يرفضه المسرح، ويرفض أيَّ تشريعات و"تفاقهات" تحطُّ من كرامة الإنسان وحريته. وهذا في المسرح اليوناني الأرسطي، كما في المسرح البريختي، حيث الأفكار والصراعات تتمتَّع بوجودٍ مثالي روحي ومادي، في نصوصه، كما على خشبته.

والقارئ لأعمال المُخرجين المسرحيين العرب الذين اشتغلوا عروضهم، كانوا ماركسيين، أو ليبراليين، سيجد أنَّهم كانوا ضدَّ خطاب التسلط والاستبداد الذي تفرضه الأنظمة لإلغاء قدرة الإنسان على الفعل؛ ونذكر منهم على سبيل المثال: سعد أردش، وكرم مطاوع، من مصر، مانويل جيجي، وفواز الساجر، من سورية، محمد بن قطاف، وعبدالقادر علولة، من الجزائر، الفاضل الجعايبي، وتوفيق الجبالي، من تونس، الطيب الصديقي من المغرب، منير أبو دبس، وجلال خوري، من لبنان، صقر الرشود من الكويت، كامل الباشا، وغنام غنام، من فلسطين، قاسم محمد من العراق. فقد رفضوا التسلط وتجريد الإنسان من ملكاته وممتلكاته، واشتغلوا مسرحهم بإخراجٍ مغاير إن كان أرسطياً، أو بريختياً. فكانوا ضدَّ النماذج الإخراجية الجاهزة، كانوا ضدَّ التبكيت والتنكيت؛ كانوا يذهبون إلى (الحقيقة) تلك التي دفع ثمنها من قبل "بروتاغوراس" 500 ق.م، حين أمرت المحكمة اليونانية بإعدامه لنشره كتابه "الحقيقة"، والذي يُعتبر أوَّل كتابٍ تمَّ مصادرته وإحراقه، فهرب، ولكنَّه مات غرقاً. مع إنَّ اسخيلوس ويوربيدس حملت مسرحياتهما تقريباً بعض ما جاء في كتابه، مثل تغييب دور الآلهة، وأنَّ "الفرجة المسرحية هي قراءة حقيقية لحركة ترابط وتفاضل واختفاء وظهور وتطور الصراع بين إنسان الخير وإنسان الشر"

الإنسان مقياس كل الأشياء. لكنَّه الاستبداد كان في الشرق، أو في الغرب، حين يحكمنا الغائب الذي في الخرافة والأساطير، ذاك الغائب الذي يستولي على الحاضر، وعلى المستقبل، فيستمرُّ الاستبداد، فيحكُم ويحكم. وهذا ما أقلقَ المخرجين المسرحيين العرب فهم لن يفعلوا كما فعل من قبل الشاعر "المتنبي" مالئ الدنيا وشاغل الناس، حين مدح كافور الإخشيدي، ويعرف أنَّه يمدحُ (عبداً) ارتقى سدَّة السلطة اغتصاباً، ولكنَّه حين لم يعطه ما يطمع من مال وسلطة؛ هجاهُ؛ وأيُّ هجاء، فنزعَ قناعهُ، أقنعته المسرحية، نكَّلَ به، وأعاد إليه (عبوديته).

إنَّ المسرح فعل لعب، فعل نزعِ الأقنعة. والمُخرج حتى يحقِّق الفعل عليه أن يتحرَّك؛ عليه أن يلعب - واللعب؛ وليس التلاعب، أوَّل الحريَّة؛ فباللعب تثقبُ قشرة الاستبداد، واللعبُ فلسفة، والفلسفة ضالةُ المُخرج على الخشبة؛ الفلسفة؛ الجدلُ الفلسفي هو الذي يأخذ بالمتفرِّج لتحقيق الشجاعة والعدالة والحق والخير والجمال. واللعب أنْ تلعب كفارس، مخرجٌ فارسٌ يذهب إلى إظهار الحقيقة، وليس إلى النجاح. إلى نزع الأقنعة؛ قناعاً، قناعاً كي يبقى المسرح، فمنذ أثينا سقراط وأسخيلوس، إلى إنكلترا شكسبير، وبيتر بروك، إلى فرنسا فولتير وموليير، إلى ألمانيا هيغل، وبيتر فايس، وبريخت، إلى أميركا إدوار إلبي، وآرثر ميلر، إلى عرب ابن رشد، وسعد الله ونوس، وعبدالقادر علولة، وأنطوان ملتقى، ويعقوب الشدراوي، وسعد أردش؛ يبقى المسرحُ فعل اللعب، وليس التسلية، فعل التربية؛ والتربية الجمالية، لأنَّه لا عاصم إلاَّ المسرح.

https://www.alaraby.co.uk/diffah/arts/2019/10/22/%D8%A3%D9%8A-%D9%85%D8%AE%D8%B1%D8%AC-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD%D9%8A-%D9%86%D8%B1%D9%8A%D8%AF