مواضيع للحوار

كتب حكيم مرزوقي يقول

كتب حكيم مرزوقي يقول

1139 مشاهدة

كتب حكيم مرزوقي يقول

 

جاري البقال الدرزي في دمشق


هو درزي ولا يحب فريد الأطرش، يبيع كلّ شيء: المنظّفات, المعلّبات, المكسّرات, المفرقعات, الفواكه والخضروات... البيرة والكلام.. ويستقبل التعازي.
فتح لي أول سكني فوق دكانه، صفحة للدين في دفتره غصبا عنّي، ودون أن يسألني حتى عن اسمي، مكتفيا بقوله " لا والله يا أستاذ.. خلّيها لبعدين, الدنيا يسر وعسر".
هكذا ودون قصد صرت من زبائنه الذين يشترون ثمّ يمضون بعد إشارة متبادلة من رأسي ورأسه إلى حين ميسرة
أغرب ما في الديون أنّها تعلّمك "البحترة" فتقتني أغلى أنواع السلع وأفخمها لمجرّد أنّك لا تمدّ يدك إلى جيبك في حينها, تماما مثل بطاقات الائتمان التي استنبطتها المصارف الحديثة من دفاتر البقّالين الكلاسيكيّة.
أمّا ما لم أكن أتوقّعه فإنّ جاري البقّال قد صار صديقا، أجلس في محلّه على كرسي صغير وأحتسي معه كلّ شيء.
نتحدّث في الفن والسياسة والاقتصاد والمجتمع ...وأضطرّ لمجاراته غصبا عنّي عند منتصف كلّ شهر.
غالبا ما أستعير قلمه وأدوّن فكرة مرّت من أمامي فيعلّق ممازحا "لازم تطلع لي نسبة يا أستاذ.. الفكرة من عندك، بس القلم من عندي.. مو بيسمّوه وسيلة إنتاج بلغة الشيوعيين؟"
دعونا من بعض سماجته، أليس المحيّر في الأمر أنّه لا يعرف اسمي ولم يسألني يوما من أين أنا؟ تلصّصت على صفحتي في الدفتر فوجدت على رأسها التعريف التالي "نظّارات وشنطاية وثقافة 9".. ثمّ تذيّله أسعار المشتريات.
سألته عن هذه "الشيفرة" الغامضة فأجابني بقوله:الذين يشتغلون بالكتابة في حارتنا كثيرون وأغلبهم من المديونين وأنا أميّز بينهم بهذه الطريقة وأعاملهم معاملة خاصّة دون أن أحرجهم وأسألهم عن أسمائهم يا ..حكيم.
استغربت كيف نطق اسمي للوهلة الأولى, تابع حديثه: لا أحبّذ كتابة الأسماء الصريحة خشية الإحراج .. أنا أعرفكم وأتابع بعض أعمالكم.
لمحت بعدها أشخاصا كثيرين من الوسط الثقافي يتردّدون على محلّ جارنا البقّال, وصرت أبتسم في سرّي : إذا كنت أنا الرقم 9 فلا شكّ أنّ هناك أرقاما كثيرة غيري وصفحات أخرى على هذا الدفتر الذي يكتم أسرار الجيوب.
أحييك يا جاري البقّال النبيل, لا لتخصيص صفحة لي في دفترك بل لدفتر آخر اكتشفته بنفسي صدفة تحت الميزان.. إنّه دفتر شعر يكتب فيه ما جال في ذهنه من خواطر ...وبعيدا عن الأرقام والفواتير.
هكذا هم الشعراء الحقيقيون، لا يعرفون بسرعة، بل يكشفون إثر سلوك يفضح موهبتهم وتستّرهم خلف لغة الأرقام.
ذكّرني الأمر برواية "سيرانو دي برجراك" لألفريد دي موسي، كيف كان ذاك الشاعر النبيل ذا الأنف الكبير يحبّ امرأة ويبلّغها رسائله عبر فتى وسيم وأهوج
لكنّ ما ظلّ محفورا في ذاكرتي من أحداث الرواية هو بائع الشطائر وعاشق الشعر، ذاك الذي تنازل عن سعر الشطيرة للطفل كي يستردّ الورقة التي لفّها فيها.. والتي فيها شعر
لا يختبئ الشعراء خلف أصابعهم، ولكنهم يختبئون خلف قلوبهم وسلوكهم وحبّهم وبياضهم.
حين اكتشفت أنّ جاري البقّال الدرزي يكتب الشعر أحسست –وأنا في دكّانه- أنّي أعيش داخل قصيدة تختفي وتطلّ من زحام الأرقام وضجيج الشاحنات.. ويجثم فوقها ميزان بقّال يكتب أسماء زبائنه شعرا.
وحده الشعر يجعل الحياة أقلّ قسوة والشاحنات أقلّ ضجيجا، والنساء أكثر رأفة بالرجال, والحكومات أقلّ قسوة بالمواطنين ... والأيادي أكثر عشقا للأقلام قبل المسدّسات.
إن جعلك الشعر مديونا أو مدانا فتأكّد بأنّك تدفع الفاتورة التي لا بدّ منها لأن الميزان الذي تختفي تحته دفاتر الشعراء لا يعترف إلاّ بالأرقام
نسيت شيئا.. لم أكن أقصد الشعر بصيغته القصائديّة وإنّما كلّ الفنون,أستسمحكم عذرا إن استخدمت التعبير الأجنبي(شعر)للدلالة على كل الفنون.
لحظة, نسيت شيئا آخر –وأليم- وهو أنّ جاري البقّال الدرزي قد رحل، لذلك كتبت عنه هذه السطور لأنّ له دين في عنقي –ليس نقودا- .. وإنما نبل الشعراء الحقيقيين وروعتهم في جعل الحياة تؤكل من كل الأطراف مثل تفاحة خضراء وشهيّة
حكيم مرزوقي