مواضيع للحوار

لا خوف على المسرح من تجلياته الافتراضية  الدكتور طارق الربح

لا خوف على المسرح من تجلياته الافتراضية الدكتور طارق الربح

591 مشاهدة

لا خوف على المسرح من تجلياته الافتراضية  الدكتور طارق الربح

#إعلام _الهيئة _العربية _للمسرح

عزلة المسرح في زمن كورونا (47)

المسرح فن جماعي، وطبيعة جسد الفرجة المسرحية لا يتحقق جوهرها الا بالجماعة وفي الجماعة.. سواء على مستوى التشكل الابداعي من خلال التداريب والتحضير أو على مستوى التلقي والتفاعل الجماهيري الحي.

فماذا عن “عزلة المسرح في زمن كورونا”؟ وهل ما عرفته المنصات الوسائطية الالكترونية من مبادرات واسهامات “مسرحية الكترونية” قدم لهذا الفن الجماعي الحي والعابر، ما كسر شيئا من عزلته وانكماش فعله وفاعليته وتفاعله؟ هل تلبى رغبة الفرجة الحية بكبسولات فيديو ؟ وما تأثير الافكار المبتكرة الكترونيا على الفرجة المسرحية؟ المسرح وعاء ابداعي يحتضن الفنون جميعها.. فما تاثيرها على قواعده الثابتة والمتغيرة ؟ وما الفواصل بين التأثير الحقيقي والتاثير المزيف الزائل؟

ملف تشارك فيه مجموعة من الأسماء المسرحية العربية لإبداء الراي ومناقشة حاضر المسرح في الزمن المرتبط باكراهات الظروف المعطاة التي فرضتها الجائحة على الجميع… وما طبيعة النشاط المسرحي الإلكتروني الذي عرفه الظرف “الكروني”…

إعداد: عبد الجبار خمران

لا خوف على المسرح من تجلياته الافتراضية

#الدكتور _طارق _الربح _المغرب

لماذا ندّعي الخوف على المسرح كلما غالبنا الخوف على أنفسنا؟  ومتى كان النقد المسرحي أداة لإجهاض الأفكار الجديدة عوض الاجتهاد في دراستها؟

نعيش اليوم، ظرفا صعبا من تاريخنا، ومن تاريخ البشرية، بسبب جائحة كوفيد 19، التي أرغمتنا على العزلة والتباعد الاجتماعي، فتأجّلت كل تجمعاتنا، بما فيها لقاءات المسرحيين بجماهيرهم. ولأنّ الحاجة أم الاختراع كما يُقال، ظهرت عدة “مبادرات مسرحية” تقاوم رتابة الحجر، وتزرع فينا الأمل الجميل، من قبيل القيام ببث عروض مسرحية مسجلة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، من لدن الأفراد والمؤسسات، أو تقديم عروض مسرحية مباشرة عبر بعض الصفحات، كما كان الحال مع المسرحي “عبد الفتاح عشيق” الّذي قدّم سلسلة عروض افتراضية قصيرة على صفحته بالفيسبوك، تحت مسمى “المسرح نت”، وهو مشروع “فرجوي بديل” حضي باهتمام الإعلام المغربي، وتميز بالسبق، وكان ملهما لمبادرات عدة.

ومن التجارب المهمة في هذا الصدد، “مبادرة شارع الحجر” التي نظمتها “فيدرالية المغرب لفنون الشارع”، قصد خلق فرص عرض بديلة لمسرحيي وفناني الشارع، وقد حققت هذه العروض، على صفحة الفيسبوك الرسمية للفيدرالية، متابعات بالآلاف، وعرفت المبادرة تجاوبا مهما من لدن الممولين، حيث ساهم أكثر من عشرين داعم من الفنانين وغير الفنانين، في تنظيم حوالي أربعين عرضا فنيا افتراضيا، مما مكننا في الفيدرالية من توفير تعويضات مادية رمزية لأكثر من مائة فنانة وفنان شارع بالمغرب، كما أنّ المبادرة استرعت اهتمام الإعلام الوطني والعربي، من خلال عشرات التغطيات والمقالات، التي أنجزتها مجموعة من أهم القنوات، والمواقع والجرائد، الوطنية والدولية.

ولم يتحرك النقد المسرحي، والفني عموما، لدراسة هذه المبادرات “المسرحية الافتراضية”، نظرا لفرادتها وجِدّتها، بل غابت المواكبة النقدية، إلاّ من بعض الأقلام المحتشمة الّتي منها من رفض هذه التجليات المسرحية، شكلا ومضمونا، دون أي دراسة موضوعية لدواعيها الظرفية وتحليل معطياتها الجمالية.

ننسى أحيانا، أنه عندما ظهرت السينما أوّل مرة، أواخر القرن التاسع عشر ميلادي، وقد كانت عبارة على تركيب صور متحركة، أبهرت الجميع، والجميع حينها، خاف على المسرح منها. وما إن اكتمل شكل السينما الساحر حتى غزت التلفزة العالم، وأثارت انتباه الجميع، فعاد الكل ليخاف على السينما من التلفزة…

واليوم، ونحن نستشرف عصرا رقميا بامتياز، يُستثمر الافتراضي والواقعي على حد سواء، ويعدنا بحيوات متوازية، عوض حياة واحدة، ويضعنا أمام مدّ افتراضي غير مسبوق لمجالاتنا العمومية والخصوصية، نجد أغلبنا قلقا على مستقبل المسرح والسينما والتلفزة، أمام اكتساح الوسائط الحديثة بمحتوياتها المتنوعة والمتاحة.

ومن عجائب العوالم الافتراضية التي ننشط فيها اليوم، تسليمها المطلق بقيمة الواقع، عكس ما قد يبدو للعيان، ولذلك نجد صناع هذه العوالم يجتهدون باستمرار ليطوروا من مغريات منابرهم ومواقعهم، حتى تظل ندّا لائقا لهذا الواقع الذي سبقها للوجود، والذي حتما سيعقبها إن كان لا بد لأحدهما من نهاية، وكذلك المسرح الذي أمتعنا دائما بحضوره الحي المباشر، وبُعد أفكاره الملهمة، وعمق أنفاسه المنعشة، وسحر جمالياته التي تعم الأجواء من حولنا ونحن في حضرته. فلا شيء يهدد كينونته، لأنه لا شيء يضاهيه، بمساراته التاريخية الممتدّة لأكثر من خمسة وعشرون قرنا…

ولا مجال لمقارنة المسرح بمستجدات الإبداع الإنساني المستلهمة منه، والمرتبطة بتكنولوجيات المعلومات والاتصال (TIC)، من قبيل ما نعيشه في هذه الآونة. فالمسرح انتصار مستمر في الزمن، منذ بزوغه في فجره الأول. لذلك لا يصح أن نخاف عليه من الأفُول أو الإخفاق، يكفيه أن نخاف على أفكارنا كي يعيش، ويكفينا أن نستنتج من تاريخ المسرح عبر العالم، أنه يغيب عن المجتمعات عندما يعمّها الفشل، ويستمر متواجدا وناجحا، حيث يليق به أن يكون، ليصل عوالم الآلهة بعوالم البشر، ويربط بين الواقع والخيال، وبين الحياة والموت، ويتحدى كل الظروف ليصل إلينا: فلا الكوارث الطبيعية محته، ولا أذهبت معالمه، ولا الحروب الضارية أضاعته، ولا الأوبئة الكونية فتكت به.

كما أنه لم يعد بالإمكان تبخيس ما تقترحه الوسائط الافتراضية من وسائل وبدائل فرجوية، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد، وحريّ بنا أن نجعل من تجليات المسرح على الوسائط الرقمية موضوع دراسات نقدية طلائعية، تعيد رسم حدود الفرجات الحية، في علاقتها بالعالم الافتراضي الموسوم بالمزيف. فلا شيء يشكل خطرا على واقعية حياتنا اليومية أكثر من المغالاة في اعتبارها واقعا مطلقا، فما نعتبره واقعا، لا يعدو أن يكون بالنسبة للفيلسوف الفرنسي “جون بودريار” مزيجا من الزيف والمظاهر.

قد يكون ما تُقدمه وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، مسرحا على غرار ما يقدّم في القاعات والشوارع والساحات، وقد لا يكون مسرحا.. ولكن الأكيد أنه “محتوى مسرحي”، يبث مسجلا أو على المباشر. كما أنّ الوسيط الافتراضي عندما يقدم محتوى مسرحيا، فلا يطمح بذلك لأن يصبح مسرحا كما في الواقع، أو فرجة منافسة لمسرح الحياة الواقعية، بل هو خيار بديهي لتحقيق التنوع في المحتويات الرقمية: التي قد ترد حرْفية، أو سمْعية، أو مشْهدية، وكل هذه المحتويات بإمكانها أن تنشر مسجلة، أو على المباشر (Live)، وهو ما يسمح لمتلقي المحتوى بأن يقرأه أو يسمعه أو يعاينه، في حينه وأوانه عبر الوسيط الرقمي.

جميعنا يعلم أن “البث المباشر” على مواقع التواصل الاجتماعي، يمكِّن صانع المحتوى من تلقي ردود فعل آنيّة وعن بعد، من لدن المتلقي، وهي قيم تواصلية حديثة، تنبنى على تسخير التكنولوجيات لخدمة حرية التعبير والحق في التلقي الحر، وهو ما لا يُتاح بنفس الطريقة في السينما، والتلفزة. فقيمة كل وسيط من هذه الوسائط تكمن فيما خلق لأجله أول مرة، فإمّا أن يكون للإبداع، أو للإعلام، أو للتواصل.

وختاما، لا خوف على المسرح، مرة أخرى، من تجلياته الافتراضية، فقد تعلّم الإنسان أن يسرُد حكاياته، ويصنع فرجاته قبل أن يتعلم الكتابة، لذلك لا يحِقّ لنا أن نشطِّب على مبادرات الآخرين بجرة قلم، أو بضغطة زر.

د.طارق الربح سينوغراف ، مدير المركز الثقافي بني ملال – المغرب