مواضيع للحوار

مسرح الكلمة والهندسة الشعرية للعرض مسرحية رهين لمحمد بويش

مسرح الكلمة والهندسة الشعرية للعرض مسرحية رهين لمحمد بويش

719 مشاهدة

مسرح الكلمة والهندسة الشعرية للعرض مسرحية رهين لمحمد بويش

#قراءة _في _مسرحية  _رهين  _إخراج _شوقي _بوزيد

#الدكتور _محمد _الأمين _بحري

ناقد وأكاديمي- جامعة بسكرة- الجزائر

#ضمن دوائر متداخلة ثلاث: المسرح الذهني، الطابع السيكو درامي، والخطاب الشعري الفلسفي، تتخلّص مسرحية رهين (إنتاج مسرح باتنة- الجزائر 2019) من اللغة الشاملة، أي من لغة المجتمع، والجماعة والنحن، لتنتصر للكلمة المفردة باعتبارها خياراً نصياً (نص محمد بويش: لفافة وطن) وإخراجياً (إخراج شوقي بوزيد)، وعلى الشحنة الرمزية للكلمة، قام المعمار الفني للعمل بأسره، وهو أول نزوع شعري معلن للمسرحية، التي حين تتخلص من اللغة الشمولية للجماعة، فهذا لا يعني أنها تقصيها من الخطاب، بل على العكس من ذلك، نجدها تعبر عن الجماعة ووعيها، لكن فقط بأسلوب عماده الكلمة لا الجملة، بمنطق المفردة الشعرية لا بمنطق اللغة الجماعية.

وهذا تماماً كما يعبر فرد مثقف عن مجتمعه بصوت واحد، وقد جعلت هذه الاستراتيجية النصية والإخراجية، من كل ممثل مجموعة من الكلمات، أو بالأحرى، قاموساً من الكلمات، يختلف جذرياً عن قاموس الممثل الآخر في مسرحية بثلاثة ممثلين وأربعة أدوار. تاركة تلك اللغة الشمولية الخطية والصوت الجماعي، لأنماط مسرحية أخرى كالملحمي والاحتفالي ومسرح المجتمع.

وحين نتكلم عن الطابع السيكو درامي للمسرح، كما هو الشأن في حقل الباثولوجيا والطب النفسي عموماً، تصبح للكلمات الملفوظة دلالة جوهرية، وحاسمة في فهم الحالة والسياق وحتى المرجع، لتكون الكلمة المفردة، مفتاحاً لدخول العوالم الباطنية للشخص في الواقع، وللشخصية في الفن. وإن كان لكل شخصية كلماتها المفتاحية، وقاموسها الخاص، فستشكل هذه القواميس الشخصية مفاتيح لفهم النص (داخلياً) وتأويل أبعاده (خارجياً).

وجدير بالذكر أن المسرح الذهني وطابعه السايكو درامي قد بات يميز منجزات مسرح باتنة بالجزائر في السنوات الأخيرة: (العطب، انتحار الرفيقة الميتة، رهين)، وفي هذه الأخيرة، أضحت كلمات كل ممثل بمثابة بصمات شخصية تميز دوره وأثره وهويته على الخشبة في مرحلة أولى، وخطابه للعالم في مرحلة ثانية. لينقسم خطاب الممثلين إلى ثلاثة حقول دلالية متمايزة: – خطاب الاستبداد السلطوي (وطرفاه المحققان الجلاَّدان)- خطاب المواطن المقهور (رهين) -خطاب الوطن والحرية (تمثله حورية). وكل طرف له قاموسه اللفظي الذي يميز ملامح هويته ودوره على الركح. أما الحمولة الشعرية للخطاب فتتوزع على نطاقات فنية ثلاثة:

1- شعرية الكلمة التي تأخذ في الاتساع بشكل منفتح، لتبلغ 2- شعرية الممثل، التي تواصل الانفتاح فتشمل 3- شعرية الفضاء السينوغرافي الذي تترجمه بكل بلاغة؛ تقنيتي الإظلام والإضاءة.

أولاً- شعرية الكلمة من اهتزاز الدلالة، إلى فصامية الممثل.

1- شعرية الكلمة واهتزاز الدلالة

في عمل مسرحي يقوم معماره الفني على استراتيجية الكلمة المفردة ووقعها الدلالي نفسياً وفكرياً وقيمياً- نلاحظ حين ينطق الممثل بأن الإشعاع الدلالي لكلماته المنطوقة لا يتوقف عند حدها القاموسي، بل تشتحن بحمولات سيميائية إضافية، تفيض عن الوظيفة التواصلية المنوطة بها، لترسم نطاقها الشعري بدلالة فائضة ومتجاوزة للقاموس، مترددة بين أكثر من معنى، وهذا الاهتزاز الدلالي، لا يرسم منطق الكلام في العرض المسرحي فقط، بل يرسم ملامح الشخصيات أيضاً. إذ نرى جميع الشخصيات تعاني الاهتزاز النفسي والتردد، لكن ليس في الوقت نفسه، بل ينتقل إليها فيروس التردد والاهتزاز بالتناوب، فيضعف هذا الطرف حين يسكن الاهتزاز والتردد كلماته، ليقوى الآخر ويسيطر خطابه حين يخلو من التردد. ومن فصل لآخر، تتبادل الشخصيات أدوار الضعف والقوة عبر الكلمات التي تغدو سلاحاً هنا، وفيروساً هناك.

ففي الفصل الأول من العرض: كان التردد والاهتزاز يسكن بطل المسرحية “رهين” (الممثل محمد الزاوي)، القابع في سجن التحقيق، يتداول على استنطاقه جلاَّدان: محقق ومحققة: (نوال مسعودي) و (مبروك فروجي)، يحاولان رسم مصير واحد لهذا السجين: “رهين”، لكن المُلفت في الأمر هنا؛ هو أن خطاب هاتين الشخصيتين: ثابت واثق محدد وحاسم، والأهم أنه أحادي المنظور:

*-المحقق: يستهل المشهد الافتتاحي بمخاطبة السجين “رهين” بالعامية الجزائرية:

[- كرهنا منك، السيغار، تشعله، تدخنه، غصباً عنك، تحب أم تكره، كل شيء في يدك، إذا حبيت تخرج من هنا، ما عليك إلا أن تطبق، ومن فاتوا قبلك من هنا، لم يخرج منهم أحد حياً، كن رجلاً، كن فحلاً، وانفض الغبار عنك. تتهنى ونتهناو منك، تخرج من هنا ورأسك مرفوع]. بهذه الترسانة من الكلمات الصارمة؛ يهاجم المحقق الجلاد، سجينه المواطن الثائر “رهين” الذي لا يملك سوى حب وطنه وحبيبته كسلاح، وهذا ما يمثل جرماً تجري محاكمته عليه، لتجريده منه.

وفي الفصل الثاني، يضيف المحقق نفسه لكن هذه المرة بلغة فصحى، ولهجة أكثر حدة، مخاطباً المواطن السجين رهين وراسماً مصيره: [الوطن مغلق في الخارج – لا حب لك بعد اليوم – لا لفافة ثالثة تدخنها، إما الوطن أو حبيبتك].

وبنبرة الخطاب الأحادي نفسه تنطق رفيقته المحققة الجلادة (نوال مسعودي) لتضع رهين بن فكي خيارين لا ثالث لهما: [وأي لفافة ستدخن إذن: الحبيبة أم الوطن؟].

يهتز البطل رهين لهذا الحصار الذي فرضه عليه زبانية النظام المستبد، بتخييره بين إحراق الوطن أو الحبيبة، فيتردد بينهما ليقرر في النهاية خياراً ثالثاً: [سأدخن لفافة القهر].

تُحيل وضعية المواطن “رهين” أذهاننا إلى عقدة درامية سابقة، هي عقدة أنطونيو [في مسرحية أنطونيو وكليوباترا- لشكسبير/ ومصرع كليوباترا لأحمد شوقي]. التي تتناص فكرياً وموضوعياً مع تيمة المسرحية: الوفاء للقلب وخيانة الوطن، أو الوفاء للوطن وخيانة القلب، لما كان الجميع بينهما مستحيلا.

تحت وطأة هذا التشتت والارتياب التراجيدي بين الوطن والحبيبة، تنفصم شخصية رهين انفصاماً مزدوجاً: انفصام صورته: بين صورة العشيق، وصورة الخائن لعشقه، وصورة محب الوطن، وصورة محرق الوطن، وهو ما يترتب عنه انفصاماً ثانياً، لكن هذه المرة صوتياً، ليخاطبنا بصوتين: صوت داخلي موجه إلى حورية والوطن، وصوت خارجي موجه إلى سجّانيه ومغتصبي حريته.

فأي لفافة سيحرق؟ والمحرقة قائمة في الجهتين؟ لكن المحترق أمامنا هو المواطن “رهين”، الممزق بين ثالوث [الوطن-الحبيبة- السجن]. والذي يغمر الركح بسيل من الكلمات الشعرية التي رسمت ملامحه كل أطراف الصراع، وجعلت من الممثل راوياً عن نفسه وعن الآخرين. متمثلاً في خطابه جميع الأدوار.

ثانياً- شعرية الممثل.. وتحولات الصراع.

من البديهي في المسرح السيكو درامي، وخاصة ذلك الذي يتسم بالخطاب الشعري، أن يترافق التمثيل مع اللوحات الكوريغرافية، أو ما يسمى (خطاب الجسد). وهو العنصر الغائب في هذه المسرحية بفعل خيارات إخراجية صرفة.

لتكون التدفقات الشعرية هنا وليدة حوار باطني (مونولوغ/ مناجاة) نرى فيه البطل “رهين” ممسكاً بوشاح (شال) حبيبته “حورية”، قبل أن تتجلى هي وتحضر أمامه لتحاوره خارجياً، واسم [حورية] هنا إيحاء بالحرية المسلوبة التي حولت الركح بأسره إلى غرفة سجين مظلمة. تسكنها أسئلة حائرة: أي اللفافتين سيشعل “رهين”: لفافة الحبيبة أو لفافة الوطن. لتأتي الإجابة على لسان “رهين” عبر خطاب ثلاثي الأبعاد، وكل بعد يمثل مرحلة من مراحل تطور شخصية رهين، تماما كما يمثل مرحلة من مراحل تاريخ وطنه. لنشهد تطابقاً شاعرياُ بين مسار شخصية رهين ومسار تاريخ وطنه في نموهما التدريجي من الضعف إلى القوة.

1- خطاب التساؤل والضعف:

تفرض المسرحية منذ البداية منطقها على الجميع؛ والذي ينص على أن من يسكنه التساؤل سيكون في منزلة الضعف، لتصبح كلمات (القهر والاهتزاز والتردد) من نصيب قاموسه الشخصي. وهنا نجد شخصية “رهين” هي من وقعت في موقع التساؤل؛ حائرة مستضعفة أمام القوى الجبارة المتسلطة، لنتعرف عليها بقاموسها التالي:

*- رهين: [- هل أتوزع خارج أنفاسي أم يريدون ركوعي؟

أي سيف يستكين إلى الغمد وهو ملطخ بدم البؤساء؟

أي تاريخ سيمنحنا حصة البقاء فيه ونحن نقف على الهامش ليهش علينا الحاكم بعصاه؟

هل سيكفي الصراخ؟]

تحمل هذه الكلمات من التساؤل والحيرة ما تحمله من دلالة الاهتزاز النفسي والتردد، أمام أعداء الحرية المستبدين، الذين يقبع البطل “رهين” تحت سجنهم، لكن بعد طول مقام في ظلمات السجن [التي تتناص في المسرحية مع ظلمات الجب للنبي يوسف عليه السلام]، ومع مرور الزمن تعتاد عينا السجين “رهين” على الظلام، ويشرق وعيه ليرى الأشياء ببصيرته، فيتحول السجن المظلم إلى محراب مشرق يقوده وعيه فيه بثبات، لرؤية طريقه القادم بوضوح، ومع هذا التحول الواعي لفكر رهين وشخصيته، وجب أن تتحول كلماته لتوافق وضعه الجديد المستقوي على خصومه في استراتيجية الصراع الدرامي بسلاح الكلمة.

2- خطاب الوثوق والثبات:

كأنما في رحلة تاريخية تلخص تاريخ الوطن الذي مر من الضعف والهوان والتساؤل حول المصير، ها هو رهين يتعافى ويثق في شخصه، لقد بلغ الآن مرحلة الوثوق بنفسه فغادر محطة التساؤل والحيرة، وشرع في إيجاد الأجوبة الواثقة التي ستمنح شخصيته هنا ملامح جديدة:

*-رهين: [- كم نحتاجك فينا أيها الوطن، وكم تحتاجنا أنت لتنتصر

أحملك في محرابي قبلة للفقراء، والبؤساء والمظلومين والحالمين

كم أريد أن أعيش حراً في مساحة وطني.

كم أحتاج إلى الشمس كي يورق دمي من جديد.

كم أخاف عليك أيها الوطن، وكم أريد أن تختفي كل اللفافات الآن].

من مشكاة هذا المحراب الذي كان قبل قليل زنزانة سجن مظلمة، تخرج هذه الكلمات الشعرية لترسم ملامح سجين ثائر وقد اجتاحته هبة وعي، حدد فيها عدته لتحقيق هدفه الذي رسمه استعداداً لمرحلة المواجهة مع مغتصبي وطنه وحوريته التي يرى فيها وجه حريته.

3- خطاب المواجهة والتصدي:

بعد أن استكمل المواطن المقهور “رهين” وعيه بأزمته، وحدد هدفه، حانت لحظة المواجهة بينه وبين زبانية النظام المستبد الذي نشر كل هذا الظلام الذي يسبح فيه الركح. وتبرز الكلمة هنا بوقع شعري وتأثير نفسي مضاعفين، كاشفة شدة هذا الصراع وهويته وأطرافه بصوت صارخ دوت له أركان الركح:

*- رهين: [- أي قدر هذا الذي تريدون أن تسكبوه على جسدي؟

لم نُخلق لنركع لكم، بل لنقاوم وننتصر.

إنهم يخافونك الآن، إنهم يخافون من فتوحات الوعي.

أنت يا من تضعني رهين برميل نفط، أقف في وجهك كي لا تسجنني كجريح.

أبداً لن يُنصَب هذا الشارع على أفواه اللصوص.

أنا الشمس، أنا الرهينة في غرفة السهاد، فهل يلتقطني مد الغضب لأثور؟ لألعن العابثين بوطني؟].

علينا أن لنلاحظ هنا كيف تقف عبارة رهين: [أنا الشمس]، لوحدها في مواجهة الظلام الذي يسبح فيه الركح، أو بالأحرى، خيار الإظلام الذي يخيم على الركح، والذي كان خياراً استراتيجياً، كونه المناسب للنزوع السايكو درامي، وللخطاب الذهني، ولتيمة الاستبداد.

ثالثاً- شعرية خطاب الإظلام والإضاءة .

لقد لعبت تقنية الإظلام (في مقابل الإضاءة)، دوراً بطولياً في سينوغرافيا هذا العرض، فبالإضافة إلى كونها ميزة فنية لنوع العرض الذهني، وطابعه السايكو درامي، وأسلوبه الشعري، فقد لعب الإظلام المطلق، دور الستائر الفاصلة بين المشاهد والفصول. ومن الناحية الفنية، كان الإظلام فضاءً مناسباً لما يختلج في ظلمات نفوس المستبدين، ولما يملأ نفس البطل رهين من قهر، وهو ظلام مناسب أيضاً للفضاء الخارجي للركح الذي كان عبارة عن زنزانة سجن يجري فيها استجواب المواطن رهين.

ونظراً لكل هذه الظلمات الطبيعية والمصطنعة، التي غطت جميع أنواع فضاءات العرض الداخلية والخارجية، صار للحظات الضوء المعدودة في العرض، وقع الاختراق، والتمرد على الظلمة، وشق حجبها وفجر ليلها الذي بدأت شخصيات المتسلطين المستبدين في المسرحية تنذر بنهايته مع قرب نهاية العرض.

لذا يمكننا اعتبار كلمة رهين المدوية: [أنا الشمس] هي لحظة الصدمة (la collision)، والانقلاب الذي تم على مستوى الكلمة، ثم أعقبته ومضات الإنارة التي كانت تخترق حجب الإظلام الذي خيم على الركح. كلما اقتربنا من نهاية العرض. كما تعتبر هذه الكلمة أهم مفتاح من مفاتيح العرض، إذ تقف لوحدها أمام زمن الحدث وهو الليل، ومكانه وهو السجن، ونفسية المخلوقات التي تعيش فيهما. وكل من الزمن والمكان ومخلوقاتهما الظلامية، تشكل جيشاً من الظلمات السائدة مادامت الشمس غائبة، لكن حين نسمع كلمة [أنا الشمس] يوقن المشاهد بقدوم لحظة المواجهة الكبرى، ولحظة البزوغ الضوئي التي ستقضي على كل الظلمات التي هيمنت على الركح طيلة ساعة من الزمن الفعلي للعرض، وطيلة حقب مظلمة من الزمن الافتراضي الذي مر على جسد الوطن باعتباره تيمة للعرض.

فكانت الإضاءة طوال العرض مقسمة على ثلاثة ألوان: الأخضر العسكري المسودّ، لون السجن وممثلي السلطة المستبدة. الأبيض لون قميص رهين، والأحمر لون وشاح حورية، ولون حورية ذاتها. حتى أن الإضاءة كانت قُمعية عمودية، أو جانبية بالأوان الثلاثة: الأبيض والأحمر والأخضر، وهي ألوان علم الجزائر.

رابعاً شعرية التحول في العرض، من الكلمة إلى الشخصية

1- التحول الإيجابي (رهين وحورية)

يصنع هذا العرض شعريته عن طريق خلق منطق خاص بكلماته وشخصياته وعالمه، ولعل العلامة التقنية الأبرز فيه هي تقنية الشخصية النامية، والتي رأينا بموجبها تطورات عديدة لكل شخصية، منها التطور الإيجابي (النمو) ومنها التطور السلبي (التضاؤل والاندثار).

فعبر فصول العرض: نجد أن شخصية البطل “رهين” تتطور من الضعف والحيرة في الفصل الأول إلى الثبات والقوة في الفصل الثاني، ويستمر التطور والنمو بشكل تصاعدي حتى نهاية العرض، مما يجعلها شخصية نامية وعمودية وإيجابية في الوقت ذاته.

ولعل التطور الأكبر الذي شاهده المتلقي هو الذي حدث لشخصية حورية، التي ظهرت في الفصل الأول مجرد كلمة على لسان رهين وسجانيه باعتبارها موضوعاً للحب، ثم تحولت إلى وشاح، يحاوره رهين، ثم تحولت إلى شبح يراوده في مناجاته وعذابه، ثم إلى شخصية حقيقية على الركح تحدثه بالكلمات في حوارٍ خارجيٍ، وتسانده بالفعل، حين تقضيي على خصمه المستبد، وتنقذه من الموت وتعيده إلى الحياة في نهاية العرض.

2- التحول السلبي (ممثلا السلطة المستبدة: السَّجَّان والسَّجَّانة).

تفتتح مسرحية رهين وتختتم بصوت السجان الذي يرسم للمواطن “رهين” قدره حسب هوى السلطة، لكن معنى الصوتين مختلف بل ومتناقض بين المشهد الاستهلالي والاختتامي، تبعاً لما لحق هذا السجان المستبد من تحول سلبي، حيث شاهدناه في الفصل الأول ماسكاً بخناق المواطن “رهين”، ومسيطراً على الوضع، وفارضاً رؤيته وأوامره يالقوة؛ خطاباً وصوتاً ومنطقاً، لنشهد مسيرة تهاوي سلطانه وتهلهل مقامه من فصل إلى آخر، حتى سكنه التساؤل والحيرة في الفصل ما قبل الأخير، ليتلوه السقوط والزوال بإشارة ختامية على يد “حورية” عشيقة رهين، في نهاية العرض.

بينما رأينا رفيقته في الاستبداد “الجلادة”، كيف كانت تفترس بنظراتها وكلماتها وصوتها الهادر ضحيتها المواطن “رهين” وتسخر من وضعه البائس والمنكسر، لكن فصلاً بعد آخر تنطفئ جذوتها، وتختفي نهائياً بمجرد تحول شخصية “حورية” من وشاح إلى شخصية حقيقية، وجدير بالإشارة أن الممثلة التي كانت تلعب دور المحققة الجلادة والمستبدة (نوال مسعودي)، هي نفسها التي ستلعب فيما بعد دور “حورية” (دون أي تغيير في صوتها أو نبرة ضحكتها)، لذلك كان على جلادة “رهين” أن تختفي لتظهر حوريته. وذلك لسببين فنيين: كون الشخصية التي تلعب الدورين واحدة؛ من جهة، ومن جهة ثانية، لتكريس مبدأ الانقلاب الدرامي، وتحقيق التحول السلبي للشخصية الغاصبة، والتحول الإيجابي للشخصية المغتصَبة في الوقت نفسه، لتكون لعبتا الاختفاء والظهور، وتطور الشخصيات، وليدتا تقنية قلب درامي واحدة، وهذا الاستثمار التقني في تحقيق لعبتين فنيتين بحركة واحدة، هو تفوق فني وإخراجي يحسب للمخرج ورؤيته الفنية.

لكن أثناء تطبيق هذه التقنية حدثت سقطة فنية مثلت خللا في المشهد الختامي أو الإيبولوغ، مثلت أزمة خروج غير منطقي من العرض.

خامساً- أزمة الإيبيلوغ.

يبدو المشهد الختامي لمسرحية رهين أضعف مشهد في العرض بأسره، إذ تتلخص فيه جميع الصعوبات والمعوقات التي اعترضت المخرج وفريقه، وذلك من نواحي عدة، لعل أهمها:

*- منطق العرض: حيث كان تطور الشخصيات سواء بالنمو (إيجاباً)، أو التقهقر (سلباً)، عبر انتقال سلس ومنطقي، يصب فيه كل مشهد في المشهد التالي، ماعدا المشهد الأخير الذي كان بعيداً عن سيرورة التطور المنطقي، حيث شاهدنا عند لحظة سقوط رهين على يد الجلاد، تظهر شخصية حورية، لتنقذ حياة رهين، وتواجه المستبد السلطوي، لكنها لم تفعل ذلك بالصراع، أو بالكلمة، التي كانت مفتاح كل الصراعات الدرامية وسلاحها. وبمنطق مختف وسلاح مختلف قضت حورية على السجَّان المستبد، لكن سلاح فعلت ذلك؟؟ لقد اقتربت من شخصية الجلاد، وأشارت إليه بيدها فتراجع وانهار، وهي حركة سحرية غير مبررة تماماً ولا تنتمي إلى منطق العرض الذي كان يقوم في جميع المشاهد على الكلمة التي تبرر الموقف الذي ستتخذه الشخصية فتكون الحركة موافقة للكلمة ومعبرة عن هوية الشخصية، ومنطق الفعل. بينما جاء هذا الفعل الختامي سحرياً ولا منطقياً في آخر المشاهد مخيباً الطاقة الرمزية للكلمات والقدرة الأدائية للأفعال التي بذلها الممثلون منذ بداية العرض: أما ما شاهدناه هنا، فهي حركات سحرية من حورية: تشير بيدها إلى الجلاد فيسقط، وبحركة سحرية ثانية تلمس رهين فينهض ويستعيد الحياة. وهما حركتان سحريتان تخرجان فنياً عن المنطق الذي تبناه المخرج في العرض منذ بدايته، وتنفصلان فنياً عن كل المشاهد السابقة التي لم نر فيها أية حركة سحرية كالتي انتهى بها العرض، التي لا مبرر لها سوى العجز التقني على اختتام العرض بنفس المستوى الذي بدأ به، ولعل المُخرج قد أراد بهذه الاختتام تغيير إيقاع القفلة المسرحية. بحركة سحرية تمنح انتصاراً سحرياً لرهين وحورية، رغم أن انتصارات الثائرين والمقهورين لم تكن يوما بحركة ساحر، تقضي على خصموهم بإشارة يد، وتنصر المظلوم باليد نفسها. ولهذا السبب نفسه وجدت بأن الحركة الختامية تقع خارج العرض وتنفصل عن منطقه وسيرورته، وتكرسه أزمة اختتام فنية.

*- المصير غير المنطقي للشخصيات- إشكالية الإخفاء:

إذا كانت نهاية شخصية السَّجَّان المستبد في نهاية العرض بإشارة سحرية قاضية من “حورية”، فإن سؤال المُشاهد سيبقى معلقاً حو مصير المرأة السَّجَّانة التي رافقته منذ أول الفصول؟؟ فهل هي شخصية زائدة حتى يخفي عنا المخرج مصيرها؟ وإن كانت زائدة فما الغاية من الزج بها ثم التورط في إنهاء مصيرها؟ ثم لماذا حضر رفيقها الرجل الذي حُسم مصيره بالقضاء عليه من طرف حورية واختفت رفيقته؟ هل يعني هذا أنها نجت؟ أم أن اختيار الممثلين فرض على المخرج، إخفاءها دون مبرر؟ وأن ظهورها قد تعذر لدواعي فنية، فجنت الخيارات الفنية على المسرحية؟ كون الممثلة نوال مسعودي هي صاحبة الدورين النقيضين (الجلادة وحورية) وظهورها في الدور الثاني(حورية) سيلغي تمثلها للدور الأول(الجلاّدة). لكن هل هذا مبرر لاختفاء غامض لشخصية هي قطب من أقطاب الثنائية الضدية على الركح؟

فإذا كان خيار ممثل واحد ليلعب دورين نقيضين قد أدى إلى اختفاء غير موضوعي ولا منطقي لأحدهما؟ فإن هذا من الناحية الفنية يعتبر سقطة، لا مبرر لها لدى الجمهور. ويتحملها المخرج لوحده. خاصة وأن الأمر يتعلق بمصائر شخصيات واختتام يتوجه، فإن لم يبرر المخرج مصائر الجميع داخل العمل، فلن يكون لتبريره خارج العمل أي معنى. سوى أنه خلل في الخيارات الإخراجية، أدى إلى خلل فني في رسم مصائر الشخصيات بنهاية العرض، وبذلك الشكل غير المنطقي، تبعاً للمنطق المعتمد في العرض نفسه.

وما عدى هذه النهاية المبتورة من منطق العرض، فإن جميع الخيارات الفنية والإخراجية، التي مررنا بها في هذه القراءة قد جسدت فنياً عملاً محكم الحبك والتعقيد ضمن نوعه الذهني، وأسلوبه السايكو درامي، وخطابه الشعري القائم في معماره الفني على الكلمة كلبنة أساسية تشيده من القاعدة إلى القمة، ولعل ثقل هذا الجهد المتميز في جنسه الذي استعمل عدداً لا حصر له من التقنيات، والذي اشتغل على نص شعري الخطاب والدلالة (وشعرية النصوص تعد من أصعب التحديات الركحية)، هو ما جعل كل تلك الجهود تتجلى في تلك الإكراهات والهنات التي ظهرت في أزمة اختتام العرض.