قصة قصيرة

أوراق قدموسية 42 - 43 بقلم ..محمد عزوز..

أوراق قدموسية 42 - 43 بقلم ..محمد عزوز..

1548 مشاهدة

أوراق قدموسية
(42)
سمك يا سمك ..

 -
تفضل يا جار ..
وقفز الماضي كله إلى واجهة ذهني دفعة واحدة ، وأنا أتملى وجه هذا الذي يدعوني بالجار ، في مكان لم يخطر لي على بال ..
فأنا لم أجاور أحداً في ( بانياس ) ، حضوري فيها كان عبوراً ، ولم أنم فيها إلا خلال امتحان الشهادة الثانوية مضطراً مع زملائي في جناح فندقي مستأجر .
ترددت في الوقوف ، ثم تابعت سيري دون أن أرد بكلمة ، لأن هذه المتابعة كانت تعني حكماً رفض الدعوة . وهو كما أعرف وأشهد الآن بائع سمك ، وأنا لست راغباً بشرائه في ظرفي هذا .
وتساءلت :
 -
رباه كيف عرفني بعد كل هذا العمر .. ؟ كيف ولم يبق من معالم وجهي الطفلي شيء .. لقد هرم فيَّ كل شيء حتى عيني .
والماضي الذي قفز هو طفولة قضيناها سوية ، أمٌ جاهدت طويلاً كي تتحرر من قيود مجتمعها ، وجدت نفسها أرملة على حين غرة ، وهي بعد صبية .
أفواه لا تنفك تطلب المزيد ، والمزيد لن يصير إلا بالعمل ، والعمل يفرض تطوراً في علاقاتها مع الغير ، صابرت وكابدت ، ثم قررت أن ترحل بأسرتها إلى بانياس ، وكان لها ما أرادت ولكن الذاكرة القدموسية لم تنسها .
)
أم النور ) امرأة من تعب وتبغ وجراح ..
)
أم النور ) امرأة تمنيتها حية كي أعود إلى ابنها هذا ، أشتري كل سمكاته ، ثم أزورها كي أنعش ذاكرة ما فقدتها يوماً .
أذكر معها صورة أبي وهو يمازحها ، فتستجيب روحها المرحة لمزاحه ، صورتي الطفلية وأنا أتقيأ كل ما اختزنته معدتي الصغيرة من أطعمة وسوائل ، في شوارع مدينة ( صافيتا ) في سفر رغبته ولم تكمل فرحتي به ، سفر كافأتني به المدرسة على تفوقي ، رحلة مجانية مع زملائي ، والوصية ( أم النور) ، ترعاني كأم ، بل ترعى كل زملائي ، أليست أماً ..؟ كانت أم الجميع في مدرستنا الإبتدائية تلك .
ولكن (أم النور(  رحلت ، وما رحلت رائحة سجائرها ، وصوتها الذي شحذه التبغ فاخشوشن ، وما اخشوشنت رعايتها لأسرتها ، أو مودتها لأهل حارتها ، تزورهم بعد نقل سكنها لتطمئن عليهم .
ويودي بها المرض الخبيث ، وتبقى ذاكرتنا تجود بتفاصيل عمرها ، وكذلك جدار بيتها الذي لا يزال يعانق بصري كل صباح .. وعصافير الدار ما فتئت تغني ، ومافتئ ابنها الأصغر يصيح بصوت فيه الكثير من صوت أمه :
-
يالله يا سمك .. تازا السمك .. بانياسي السمك .

أوراق قدموسية
(43)
ذاكرة أمي

-
 إلها كم يوم عم تستناك ..
بهذه الكلمات استقبلتني ( فطوم ) قبل أن ألقي تحيتي الواجبة عليها ، وهي تجلس على أحجار ( الرعش ) في أسفل الدرجات المنحدرة من ( السوق ) ، رعش لم يتغير فيه شيء منذ أيام طفولتي ، لكن الخربة التي يشكل هذا الرعش سورها الطبيعي ، تغيرت بعض معالمها بحكم الإهمال الطويل ..
ردتْ فطوم التحية باقتضاب تام ، وبدأت تصيح بملء صوتها الذي لم تحد السنون من نبرته الحادة :
 -
إجاكِ الغالي .. يا أم محمد ..
وصارت ( أم محمد ) بمواجهتي في منتصف الزاروب القصير المؤدي إلى البيت ، تحاول أن تتحدى أوجاعها ، وتسارع خطوها كي تتناول من يدي بعض ما أحمله .. لتخفف عني عبئاً لم يكن يضايقني .
لم أغب عنها أكثر من عشرة أيام ، لكني استطعت أن أحس بها وهي تمعن في استنشاق رائحة جسدي خلال إصرارها الفطري على لثم وجنتي ، وصرت أسمع أصوات كل أمهات العالم ، وهن يعلنّها بكل اللغات ، عندما يقبلن أولادهن :
 -
يا الله ما أطيب ريحتك ..!!؟
لا أدري لماذا كان يعنيها أن تسألني عن الطقس في ( سلمية ) ، ونسيتْ جوابي في الحال ، فعادت وسألتني ثانية ثم ثالثة فرابعة ..
وأنا من فرط مللي من سؤالها المتكرر الذي لم أجده بهذه الأهمية ، أظهرتُ ضيقي ، فأطرقتْ وأحستْ بما في داخلي وانكفأتْ ..
وكان علي أن لا أغتال فرحها بوصولي بهذه السرعة ، فدفعت نفسي في أسئلة أعرف أنها تسر بها ، خاصة إذا تركتها تفيض بإجاباتها ..
 -
شو .. مين مات بغيابي ؟
 -
مات أبو زينو ..
-
 الله يرحمه ..
وكي أكمل الدور ، صار من الواجب أن أحرض ذاكرتها البعيدة ، فسألتها عن الميت من يكون ، لأنني لم أكن أعرف من تقصد ..
وفردت كل ذاكرتها ، لتحدثني عن عائلة الميت ، هي تفاصيل لم تكن تهمني في شيء . وكان علي أن أصغي جيداً ، وأن أحاور ، والحوار لن يكون إلامزيداً من الخوض في تفاصيل أكثر .
وعادت أمي بجمع صفاتها ، تألق الفرح من جديد في عينيها ، فرح لقائها بي ، ووجود شخص يسمعها ويهتم بما ترويه .
خلوت إلى نفسي ، وتمنيت لو تتلبسني حالتها ، فأنسى تفاصيل أيامنا الحاضرة بكل تعبها ، وأعود إلى أيام أنعشها الفرح لسنين خلت ..
سنين خلت ، ولن تعود إلا إذا عدنا صغاراً كما كنا ، بذاكرة صفحاتها بيضاء ناصعة ..

محمد عزوز

أعلى النموذج

أسفل النموذج

التعليقات

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية