أوراق قدموسية
(7 )
دلف وعرجلة
صورته ترتسم أمام ناظري هذا الصباح الشتوي الممعن في
قدموسيته ، أعيش مع تفاصيلها بضع دقائق ... أراه جالساً بلباس عمله الذي لا يختلف
كثيراً عن أي لباس آخر له ، يلف سيجارته الغليظة ، يشعلها بقداحته الصدئة ، تتلاحق
نوبات سعاله التي اعتادها واعتدناها معه نحن أهل بيته .
الكل ينامون في غرفتنا الغربية لأنها الأكثر دفئاً ،
وأمي تمد فرش النوم كلها ، وننام كيفما اتفق بمراعاة ال
إبتعاد عن مواقع الدلف التي بتنا
نعرفها جميعاً ، ولم تعد تنفع معها كل نوبات العرجلة (1) . وأمطار القدموس إذا
بدأت لا تعرف كيف تنقطع .
تضع أمي وجبة الصباح أمام أبي ، وأسمع أصوات اصطكاك
فكيه وهما يتعاضدان لطحن البرغل المسخن ، يسيل لعابي لأصوات الأكل ، ولكنه البرغل
، ستنشب معركتنا مع أمي لأننا لن نقبل به لفطورنا ، أما أبي فهو ما فتئ يردد
أمامنا ( البرغل مسامير الركب ) .. أحس به من جديد وهو يـتأهب للمغادرة مع بقراته
لفلاحة أرضنا في السفوح المقابلة .
ومع دعاء أمي له بالسلامة أنهض وأخوتي استعداداً
للمدرسة ، وتعرف أمي أننا سنرفض طعام والدنا ، فتجهز إبريق الزوفا على عجل ، لأن
الشاي لم تكن تزور بيتنا إلا نادراً ، وعلى الصينية صحن فيه شنكليش وآخر زعتر تعده
أمي في الصيف بنفسها ، تطحن الكثير من الحبوب المحمصة مع السماق ، ولأننا لم نكن
نملك ثمن الزيت في ذلك الحين ، كانت قطعة الخبز تبل بالماء أولاً ثم تعبر إلى صحن
الزعتر .
أرقب بألم توزع صحون بأدوار أخرى في أرجاء البيت لجمع
قطرات الدلف المشبعة بألوان تمنحها لها أخشاب السقف ، وتعلق في ذاكرتي صوت ارتطامها
بالصحن .. تراك
.. تراك..
أنتبه لنفسي ، فأفيق من هذه التفاصيل في ذاكرتي
القديمة ، لأسمع صوتاً في ذاكرتي القريبة ، صوت أصغر أولادي قبل أيام ، وهو يرفض
في الصباح تناول أي من أنواع المشروبات المعتادة ، ويسمي لي نوعاً لم تعرفه
قواميسي ، ولأنني لم أستطع حفظ الإسم ، اضطررت لتسجيل اسمه في ورقة صغيرة ، وفي
السوبر ماركت أخرجت الورقة خجلاً ، ابتسم صاحبها وهو يحاول أن يصحح لي الأسم الذي
لم أجد قراءته .
(1)
العرجلة : عملية دحل الأسطح الترابية بحجر أسطواني
أملس يسمى ( معرجلانة ) لمحاولة قطع الدلف فيها .
محمد عزوز
قدموس 2012/1/11
التعليقات