أخبار أدبية

بين الفارس والقمر  سردية مسرحية  الدكتور جبار خماط حسن

بين الفارس والقمر سردية مسرحية الدكتور جبار خماط حسن

798 مشاهدة

بين الفارس والقمر 

سردية مسرحية  

الدكتور جبار خماط حسن            

-١ -

القافلة

الزمان : نهار رتيب

المكان : طريق موحش

كانت القافلة رفيعة من بعيد، تحيطها الفلاة من كل الجهات، فقط نسر جائع، يتجول في السماء، يبحث عن فريسة مستعجلة، اقترب الرمل عاصفا على وجوه الفرسان، النسوة في الهوادج، ترقب طول الطريق، أصبحت النهاية قريبة، مازال النسر يحوم في المكان، راقب من بعيد ،طائر لا يقوى على الحركة، انقض عليه بفرح، في هذه اللحظة، لاحت في الأفق، غبرة  واصوات مسرعة نحو القافلة، اقترب زفير خيول الفرسان المهاجمين من القافلة، احاطوا بها من ثلاث جهات، كانت خيول المهاجمين عطشى، صاح كبيرهم، لن ادع القافلة تمر ! اجابه الفارس الذي  يتصدر القافلة، لن تقدر، هل انت قاطع طريق ؟ اشتد غضبه انطلق بفرسه إلى نهاية القافلة، وكأنه يستعرض قوته ومهارته، عاد مسرعا، اسمع، انا قائد فرقة الاستطلاع، ، لا اسمح بمرور الغرباء، الأوامر تقول لن تدخل حدود مدينتنا!  علامات التعجب على وجه الفارس، لغط يسمع من عمق القافلة،  رد عليه وكأنه يذكره بواقع الحال، انها مفتوحة لشذاذ الآفاق واللصوص والخونة، كلهم يسرحون ويمرحون، ومثلي لا يدخلها، هنا، صمت قائد فرقة الاستطلاع، وبعد لحظات، أطلق كلمات غاضبة، لكنها مكبوتة، هذه أوامر الامير، انت ومن معك ممنوع عليك دخول المدينة، إلا بشرط طبعا !!

الفارس  : وما هو الشرط ؟

القائد   : تذهب الى الامير، وتسلم عليه، وتعمل بأوامره !

الفارس :  مثلي لا يأخذ  الاوامر من مثله ..

القائد  :  اخذك انت ومن معك أسرى الى الامير، لينظر  في امركم.

الفارس : لن نذهب ؟ وسندخل المدينة، انصحك بالعودة الى الامير، وتخبره برفضي ؟

 عندها جاء مسرعا احد جنود الاستطلاع، الذي وقف بينهما بجواده، همس في اذن قائده، نعم فهمت، ارجع الى مكانك، قفل راجعا بسرعة إلى مكانه، ردد القائد وهو يبتسم، هل لديك ماء ؟ اجابه الفارس ، نعم

  اسقي  جنودك وخيولك ؟

 القائد ( يشرب الماء ) مع هذا  لن تدخل المدينة، ولن اقتلك، بل اسمح لك بالعودة إلى بلادك ! اقترب منه الفارس، هل تعرفني ؟ اجابه، وكأنه لا يسمع،  نعم اعرفك .. نسبك شريف، ولكن لا يد من منعك من دخول المدينة، رد عليه الفارس بهدوء، بل سندخل، هنا اشتد غضب كبير فرقة الاستطلاع، الزبد ينزل من فمه، بل سنقتلكم جميعا ! استفزت القافلة من كلامه،  جردوا سيوفهم، منعهم الفارس بإشارة من يده، مرددا : أكره أن أبدأهم بقتال !

مر الوقت بينهما لزجا، تلتصق فيه مخاوف النسوة، اللواتي يرقبن توتر الموقف، انتهى الخلاف، أن يأخذ قائد القافلة طريقا آخر، مع مراقبة من فرقة الاستطلاع، التي كان كبيرها ينظر إلى القافلة وهي تدخل خرم  الظلمة لتختفي وسط ذهول كبير المهاجمين، متذكرا كلام قائد القافلة حين سأله : هل ستهرب ؟

اجابه  بتسع كلمات بينات .

القائد:  لا اعطيهم بيدي إعطاء الذليل .. ولا افر  فرار العبيد

2

الحصار

لم يكن معلوما ما يجري، الأحداث فيها تعقيد عال، الدنيا مرتبكة، الحسابات غير مضمونة، الكل يقول، حين وجدت القافلة نفسها في مكان خال من معالم الحياة، مكان قاس، خشن رغم نعومة رماله، لكنه يزرع في النفس الانقباض والغثيان، هل هي متاهة ؟ ورطهم بها قائد فرقة الاستطلاع، ما هذه الارض التي لا زرع فيها ولا ماء، التفت الفارس الى صحبه، قائلا، ينبغي الحصول على الماء، نهض القمر، قائلا، انا ساجلبه يا سيدي، رد عليه الفارس، خذ معك ثلاثة من الفرسان، انطلق الفرسان في عالم التيه، كانت الأرض محدبة, أو أنها مكسورة الظهر، اذ ترى سرابا بحدبة بيضاء لامعة، جافة كأنها ريق طائر عطشان، بعد نصف ساعة على ظهر الخيول المسرعة، وصلوا إلى النهر، وجدوه مقيدا بالحرس، جيش يحرسه، ماذا يجري؟ كلام القمر مع فرسانه, لم النهر سجينا ؟ كأنه سيرحل مخفورا من هذا المكان ؟! ( الى فرسانه ) اسمعوا، ينبغي اختراق تلك الزاوية الضيقة، لان الجنود مشغولون بالثرثرة، نباغتهم، ندخل النهر، نأخذ الماء ونعود، انطلقوا كالرمح في فضاء مستقيم، وصلوا الماء، أخذوا ما يكفي وعادوا

وصلوا إلى المخيم, وزعوا الماء على الجنود والنساء والاطفال ثم عاد إلى الفارس،

القمر: اتممت المهمة على أفضل صورة، ( صمت ) ما بك يا سيدي ؟

الفارس : لم تأخرت ؟

القمر : النهر بعيد

الفارس : ماذا بعد ؟

القمر : وجدت النهر سجينا، والجنود سجانين ؟

الفارس: هل قلت إن النهر سجين

القمر : اذن سنموت عطشا، لقد حبسوا عنا الماء، أمامنا وقت طويل لنصل !

جمع الفارس من معه، وخيرهم ليلا، بين البقاء معي، أو دونكم هذا الليل، اتخذوه جملا، واعلموا أن القوم يطلبونني، صاح الجميع، والله لن تتركك ولو قطعنا اربا اربا !!

بدأ النهار صلدا، تسمح منه فحيح اصوات تقترب، وكأنها رسل الحرب، وقف الفارس عند باب الخيمة، نظر إلى الأفق، لم ير عليه سوى  الجنود والرماح والسيوف والطبول التي تقرع فرحا بالحرب، نفد الماء في الخيام، بدأ العطش يغزو الجسد، الاطفال تبكي من شدة العطش، الفارس متحير، كيف يأتي بالماء ؟ وقد تلاشى خلف الأعداء، عندها صاح بكلمات ست، يا قوم ..كونوا أحرارا في دنياكم !!

- ٣

 القمر

نزل القمر ليستريح، كان تعبا طوال الليل من الحراسة وتركيز نظره على الأهل، لأنه تكفل حمايتهم، ولأنه كان قمرا منيرا ، ظل يبهر من يراه من بعيد، يتحرك برشاقة، ويزرع لونا مضيئا في فضاء المكان الموحش، الكل بين النوم واليقظة، ينتظر نهارا ثقيلا، ربما فيه حياة سعيدة أو موتا يقرع اجراس الخلود من بعده، بين هذا وذاك، بقي القمر واقفا، تعلم الكرم دوما، ولذلك فضل اليقظة في الليل، الاصوات تأتي إليه خاشعة، على موجات آيات القرآن، أنه ينظر إلى الماء، وجد نفسه منعكسا فيه، لكنه لا يريد البقاء فيه، لأنه يريد أن يخرج، لينعكس في  أفواه عطشى، تنتظره بشغف عليل، تأخر القمر، الغريب أن النهار كان في أشده، لكن الجميع كانوا ينظرون إلى القمر كيف يصول ويجول في الميدان، طويلا مثل شعاع مكتنز، شهاب سماوي، ينزل بسرعة خاطفة على الأعداء، لتكون النهاية أمام الماء، الذي دعاه أن ينعكس فيه، فأبى رافضا بشدة غواية الماء،

سأله الماء : تعال انعكس بي واغرف مني ما تشاء .. طوال  الليل لم تنم ! طوال الليل لم تشرب ماء فرات عذبا  ؟

القمر : لا اريد الانعكاس  فيك  لأرتوي، لم اتعود أن اشرب اولا، ليشرب من ينتظر، ثم افكر في امري

الماء : ( متعجبا ) اترفض قانون الطبيعة ؟! ينبغي أن تنعكس ؟

القمر : لا قوانين ثابتة ! انها روحي بين عطشين، عطش الانتظار، خوفا ان لا اعود، وعطشي لفرحهم، وانا اسقيهم واحدا تلو الآخر

قام القمر بعد أن نزع انعكاسه من الماء، لكن الماء توسل أن يأخذ هدية تذكره به، ماء لقربتك، خذه، لعل عطشهم يرتوي منك  ؟!

عاد مسرعا الى المنتظرين ، يترقبون سناه، لم يجدوا القمر بينهم، طال انتظارهم، ولم يعد، لأنه توقف منتصف الطريق، بعد أن نزلت ظلمة حالكة في عينية، قطعوا  جناحي ضوئه، توقف القمر عن المسير لأنه  لم يتعود ان يعود خال من كرمه، نظر إلى الماء تسرب منه إلى الأرض، ظل متحيرا، هنا صاح القمر لأخيه الذي يتحرك هناك مثل كوكب دري،  صاح بصوت لم يسمعه سوى أخيه، نطق بكلمتين فقط

القمر : اخي انقذني ؟!

-٤-

الفارس

الزمان : بعد الضحى بساعتين

المكان : بقعة رملية حارة

قال له كبيرهم : الم تتعب ؟ لقد بقيت وحدك، رجالك اكلهم القتل والذبح, ما لذي تريده ؟ رد عليه من على جواده،

الفارس : انا لم اسلم ولم اهتز حين كان معي اهلي واصحابي من الرجال، كيف لي ان أخضع وقد قتلتم سعادتي بهم ؟! انك واهم

غضب من كلامه، و أزاح بجواده بعيدا، أعطى الأمر للنبالة، بأن يزخرفوا جسده بالسهام ؟ جاءت السهام بسرعة مجنونة نحو صدره ونحره، وجنبه وفخذه وساقه، وجبينه، كان الجيش ينظر إليه ساكنا على جواده، لم لا يسقط، جواده الأنيق بزينته، كان يصرخ متألما، ان يرى صاحبه الفارس، على هذا الحال، دمه ينزل على جسده ساخنا, كلمه بصهيله، فلم يجب ! كان الفارس محدقا الى عالم اخر، كله اضواء وانهار وأشجار ظليلة، ينظر الى عالم سليم ومعافى من الفتن، بدأت الظلمة تعم المكان مع إغماضه قصيرة بعينيه، مع ضعف شديد في جسده بسبب النزف الشديد.

جاء كبيرهم ثانية، رٱه على هذا الحال، ماسكا برمحه، مستندا عليه، نظر إلى هيبته ووقاره، قال انت بهي الطلة حتى في مشهد قتلك ؟ اسمع ؟ لا اريد منك شيء ؟ فقط كلمات تقول أننا على حق ؟

رد الفارس : لا ..

غضب كبيرهم واهتاج وماج بحصانه، بحركة سريعة التف حوله، أراد حصان الفارس حمايته، لكنه لم يستطع بسبب هجوم جيش كامل عليه، انهالوا عليه بسيوفهم، قطعوه اوصالا، عندها سقط من على جواده ، كان اديم البيداء حارا، يلسع جسده مثلما يشعر بلسعات جراحه المؤلمة.

ينظر إلى ما حوله لا يجد أهله ولا أصحابه، غريبا كسيرا، مسك بقبضته الرمال، شد عليها، باغته كبيرهم، ها ماذا تشعر ؟ انت وحدك ، قلها واسترح ؟

فتح قبضته، طارت الرمال من كفه بعيدا

نطق الفارس بكلمات ثلاث  :  هيهات منا الذلة .

- ٥ -

السيدة

المكان : قصر معزول

الزمان : ليل موحش

الحدث : نساء مقيدات بالأغلال، يدخلن مكانا غريبا، لا نسمع سوى همهمات الحاضرين،  مشاعل القصر ينعكس نورها على وجوه النساء،  يحاولن حجب نظرات الندماء في قصر الامير المعتوه، يتبختر في مجلسه، يرى النساء، وقفتهن لها طعم الكبرياء، يحاول، يريد كسر هيبتهن، اقترب من الاولى، أزاحت بوجهها، ذهب إلى الأخرى، لم ترفع راسها، وصل أخيرا إلى السيدة التي تتشح بالسواد، في عينيها، جسد مسجى، هناك في العراء، لم يدفن, تظلل جسده غيمة جاءت مهروله،  تعصف ريح من حوله، لها زئير أسد جريح !

قطع رحلتها، صوت الامير المزمجر  (مبالغة في أداء صوته )

الامير - كيف رأيت سيدك الذي أمسى طعاما للجوارح ؟

السيدة - هيهات، الجوارح تحرسه الان، انني أراها تتناوب على حراسته !!

الامير - ‏ خيالك معذب بحسرة مكبوتة ، ( يضحك )

السيدة : اضحك .. قريبا ستبكي منكسرا وطريدا

الامير - ( مقاطعا ) كيف رأيت صنع الله بأخيك ؟

السيدة : ( صمت )..أدارت رأسها باتجاه جسد أخيها المرمل في البيداء .. بعدها نطقت بأربع كلمات

السيدة : ما رأيت إلا جميلا !!