الستارة الداكنة السواد مسدلة من ورائه . و هو جالس
على كرسي خيزران يصدر أنيناً خافتاً كلما تحرك جسده النحيل . و أمامه طاولة صغيرة
مغطاة بقطعة قماش خضراء باهتة اللون ، عليها ميكروفون صغير ، و كوب ماء فارغ . و أوراقه
البيضاء الناصعة الموشاة بحروفه الزرقاء المنمنمة التي يقرأ منها للمستمعين
المواجهين له في صفوف مرتبة بعناية .
فجأة ( ربما فجأة( !
يدوي المكان بأزيز رصاصة واحدة ..
.. و لكنها كانت كافية ، كي تهتز بوضوح من خلفه الستارة
المهترئة الكالحة ، ويهوي ببطء على مساحة الخضرة للطاولة الصغيرة ، وقد بدأ النزف ..
.. دماء غزيرة تتدفق سائلة من رأسه الكبير ، لونت الأوراق
التي هوت - كأجنحة لطيور مصطادة - متناثرة من بين أنامله الراعشة ، و انسكبت بخط
رفيع أحمر
( أحمر
جداً ) مـن الطاولة ، نزولاً إلى المنصة ، نحو الأسفل ، حيث الجالسون . مشكلة تحت
الأحذية ، بركة متوهجة بلون الجمر لدماء طازجة ، برائحة مالحة الحضور !
لم يهرعوا ليسعفوه ، فلقد كان من المؤكد أنه ميت ( ميت
تماماً
(
!
لم يركضوا ليلقوا القبض على القاتل قبل فراره ، لكيلا
يعرضوا أنفسهم للخطر (وهـذا عادة ما يحدث ( !
لم يخرجوا من المكان ، كي لا يثيروا أدنى شبهة بأنهم
هربوا من مكان الجريمة ( و هذا وارد أيضاً ( !
و لكن على الرغم مـن كل الاحتمالات الممكنة ( وغير
الممكنة
(
!
كانوا منفعلين لأقصى درجة محتملة . فلم يجدوا غير
وسيلة ( قد تكون ) وحيدة للتعبير عن وجودهم ( في حال وجودهم( !
سوى أن يواصلوا التصفيق للميت ، الأكثر حياة ( حتى بعد
موته ، منهم هم الأحياء(!
فضجت القاعة .. بالتصفيق !!!
منشورة في كتاب (تصفيق حتى الموت) الطبعة الأولى 2001.
منشورة في جريدة (الأسبوع الأدبي) 1998.
التعليقات