قصة قصيرة

قل لهم أيام ويخرج ... محمد عزوز

قل لهم أيام ويخرج ... محمد عزوز

1894 مشاهدة
قل لهم أيام ويخرج ... محمد عزوز 2009-09-14



كنت أستطيع تمييز رنة الهاتف القادم من خارج المؤسسة ، ليس لأن جهاز الهاتف الجديد الموضوع في مكتبي يمكن برمجته بهذا الشكل ، بل لأن تحويل المكالمة من المقسم كان يشير إلى ذلك .. رنة قصيرة ثم أخرى طويلة ، ويأتيك صوت عامل المقسم ليعلن لك عن اسم الطالب ..
رفعت السماعة على عجل .. وبدأ قلبي يتسارع ..
- ترى هل ستفي بوعدها وتزورنا هذا المساء ..؟
وقطع عامل المقسم تساؤلاتي :
- الأستاذ نور الدين يريدكم ..
- أهلاً .. أهلاً ..
وقفت احتراماً والسماعة في يدي ، ثم ظهر علي بعض الإرتباك .. رغم أنني كنت أشغل وظيفة مهمة في هذه المؤسسة .. هي حالة أصاب بها عندما يحدثني مسؤول ما في هذه الدنيا ، فكيف إذا كان المتحدث مدير عام المؤسسة ..
وانشغل ذهني بسرعة :
- ترى متى خرج من السجن ..؟
- أهلا أستاذ .. كيف .. كيف حالك ..؟ حمداً لله على السلامة ..
- سلمك الله .. أنا أتحدث من السجن ..
ارتخت مفاصلي ..
- يا ويلي يحدثني من السجن .. !! كيف يسمحون له بذلك ..؟
وأصابني ذعر شديد من مجرد تصور أنه يحدثني من مهجعه أو زنزانته هناك .. وكادت السماعة تسقط من يدي .. تماسكت قليلاً .. إنه المدير العام ..
- احترامي أستاذ .. أنا في خدمتك ..
- قل لي .. لماذا فعلوا ذلك ..؟ كيف ينقلون أمين مستودع البضاعة الجاهزة ..؟ لماذا غيروا لجنة الشراء ..؟ لماذا أعادوا الجرد ..؟ ثم كيف يغيروا نمط البيع ..؟ كيف .. ولماذا ....؟
وكرر تفاصيل أخرى حدثت بعد غيابه - سجنه ..
- أنا لا أعرف .. إنها أوامر التفتيش يا أستاذ ...
- ( بلا تفتيش بلا زفت ..) يجب أن يعيدوا كل موظف إلى مكانه ، والأمور إلى نصابها .. هل فهمت ..
- نعم سيادة المدير .. معك حق .. سأنقل لهم رغبتك ..
- وقل للسيد المعاون أن يفعل كذا وكذا ..
- نعم .. سأقول له ذلك يا سيدي ..
وانقطع الإتصال ...
كانت ركبتاي لا تزالان تصطكان هلعاً ، فالمتحدث المدير العام ، ومكان حديثه السجن الذي زج به بعد أن حققوا معه وأدانوه بمخالفات وسرقات ..
هدأت بعد لحظات ، وبدأت أفكر بنقل رغبات السيد المدير العام إلى المعاون ..
فضحكت من طريقة تفكيري :
- كيف أفعل ذلك ..؟ هو في السجن مكفوف اليد .. وقد لا يعود إلى المؤسسة نفسها كموظف عادي .. ثم لماذا لم ينقل رغبته مباشرة إلى المعاون ..؟
تسمرت في مكاني ، وانشغل ذهني طويلاً بمكالمة المدير ..
بعد أيام جاءني الصوت نفسه :
- أهلاً أستاذ ..
- أنتم لم تفعلوا شيئاً مما طلبت .. لا زلتم تتمادون في غيكم وصلفكم .. هذه مؤسسة .. أموال عامة .. يجب أن تحافظوا عليها .. عندما أعود سأحاسبكم واحداً واحداً .. أنا موجود هنا نتيجة سوء تفاهم ليس إلا .. ألا ترى كيف لم يعينوا مديراً آخر بدلاً مني ..؟ أصحاب القرار يعرفون أن سوء التفاهم سيتبدد قريباً .. لذلك استمهلوا حتى أعود .. إن ذاك المعاون لا يفعل ما تقتضيه الأصول .. سأستبدله حال خروجي .. قل لهم أيام ويخرج ..
ولما انقطع صوتي .. عاد يصيح :
- هيه .. أين أنت ..؟ لماذا لا ترد ..؟ ألا تزال على الخط ..؟
- نعم .. نعم أستاذ أنا أسمعك جيداً .. جيداً يا سيدي ..
- يبدو أنك لا تبلغ أوامري .. أليس كذلك ..؟
- صمت ...
- سأحاسبك أنت الآخر .. عد بي إلى المقسم ثانية ..أعطوني مدير التخطيط .. مدير الإنتاج .. أي مدير ..
لم يستجب عامل المقسم لصراخه .. وكل ما فعله أن دون رقم الهاتف الطالب على ورقة أمامه ..
بعد أيام أخرى ..ظهر هذا الرقم مجدداً على شاشة المقسم أمامه .. خفض صوت الرنين إلى حده الأدنى وتركه يطلبه ..
وصارت أوامره تنهال يومياً في موعد شبه ثابت على شكل رقم وإشارة ورنين خافت دون أن يجيبه أحد ..
شهر .. شهور .. والأوامر تترى ..
أصدر المعنيون قراراً بتسمية المعاون مديراً عاماً للمؤسسة .. وحكموا على المدير السابق بالسجن والغرامة .. وهو لا يزال يصيح عبر جهاز هاتف نقال مستعار أو مستأجر من أحد السجناء القدامى أو من أحد الخفراء :
- لماذا لا تردون أيها الأوغاد ..؟ سأعود إليكم قريباً .. قلت لكم أنه مجرد سوء تفاهم .. السادة المعنيون قالوا لي ذلك .. أكدوا ..
وحفظ عمال المقسم المتعاقبون كل الأرقام التي كان يطلب من خلالها المؤسسة ، فأرخوا العنان لرنين المقسم الخافت ، وتركوا الإشارة الضوئية تظهر على شاشة جهاز المقسم الجديد ..
واعتاد نزلاء مهجعه على صراخه وهياجه وبعض حكاياه يوماً بعد يوم ...


القاص : محمد عزوز
 

التعليقات

  1. Image
    إن ذاك الذي يستطيع أن يعيش بكامل قواه، زمناً مضاعفاً، لن ينتمي إلى نوعنا نفسه. لن يبقى شيء كما كان في حياته، لا الحب، لا الطموحات، لا شيء.منقول ميلان كونديرا

اترك تعليقك هنا

كل الحقول إجبارية