مواضيع للحوار

المسافة الجمالية في العيادة المسرحية   الدكتور جبار خماط

المسافة الجمالية في العيادة المسرحية الدكتور جبار خماط

1397 مشاهدة

المسافة الجمالية في العيادة المسرحية

الدكتور جبار خماط

 العالم من حولنا علامة إدراكية، يختص بها الوعي، يستدعي من تياره الجارف، ما يريد ويتفاعل معه، من حيث تراكم خبرة المعرفة لديه، إذ تتباين خبراتنا في فهم الوجود الذي من حولنا، منهم من يراه ضروريا للتجربة والمعرفة، ومنهم من يراه ضرورة لا خيار لنا في التواصل معها، لا نها سابقة لوجودنا زمنياً، ومنهم من يجد العالم غير مكتمل الصورة، ينبغي بإدراكنا الوصول به إلى الاكتمال، هذه النظرات المعرفية، لا تقوم او تستنتج الا بالمسافة الادراكية ما بين الوعي والظاهرة التي من حولنا، أذ نجد نظريات التلقي تنظر الى العالم بوصفه رسالة تنتظر مشاركة المستقبل للتفاعل والاضافة، أو ما يعرف بالتغذية الراجعة في نظرية الاتصال، وهنا يكون السؤال، هل جميع الفنون تتطلب تغذية راجعة لنجاحها واثبات فاعليتها الفكرية والجمالية ؟

أم ان الفنون محض وجود مستقل بذاتها لا تنتظر تدخلا من الخارج - المتلقي - لتكون مكتملة الانشاء، والتأثير ؟ إن مسافة الوعي مع الظاهرة اما عاطفية أو ذهنية، انعكست جماليا على المسرح، فاصبح المسافة الجمالية في بعدها العاطفي في العروض التي تعتمد التطهير "الارسطي"، أذ المتلقي يستقبل الرسالة كاملة، والغاية منها تطهير وعي المتلقي من بعض المشاعر السلبية التي حددها لنا "ارسطو" بعاطفتي الشفقة والخوف، وثمة مسافة جمالية تسمح للمتلقي بان يكون شريكاً في صناعة الفعل المسرحي ذهنياً، قد يكون بالكلام او الاشارة الحركية او السمعية، لان العرض غايته البحث عن متلق واع يبحث عن التغيير في واقعه الخاص والواقع العام من حوله، وبالتالي يمكن التعرف على المسافة الجمالية في بعدها التفاعلي / الذهني، في عروض المسرح التجريبي الذي ينظر الى المسرح بوصفه طقساً ينتجه صانعوا العرض والجمهور على حد سواء، ولنا في تجارب "بريخت" في مسرحه الملحمي تأكيدا على مسافة التفكير الجمالي، الذي تختلف عمليا عن مسافة العاطفة الجمالية التي نجدها في المسرح الذي نظر له "ارسطو" في كتابه "فن الشعر" .إذاً ثمة مسافتان أسلوبيتان تعالجان الواقع، كلما اقتربت من الواقع حد التطابق مثل ما ارادت الطبيعية، نجد ان المسافة الاسلوبية في درجة الصفر، اما اذا كانت المسافة الاسلوبية بعيدة في معالجتها للواقع المحيط بنا، فان منسوبها النوعي تصعد درجته مثل ما نجده في عروض مسرح اللامعقول، لذا حين نشد الرحال نحو المعالجة المسرحية، ينبغي التفكير في درجة المسافة الاسلوبية مع الواقع، ودرجتها ما بين التطابق أو الاختلاف.

وهذا ما دفع العيادة المسرحية أسلوبيا، لا تقترب من الواقع ولا تبتعد عنه، لأن مسافتها تعمل اولا في وعي المشارك وازاحة ذاكرته المؤلمة، تلك مسافه ذهنية بين الذات وذاكرتها السلبية، ثم تبدا مسافة عاطفية جديدة، تتمثل في تعاطف المشارك مع الشخصية الدرامية التي يواجهها لأول مرة، وهو ما يخلق لديه إرادة الكف لما هو سلبي والميل الى مساحة سلوكية جديدة يتدرب عليها بشكل جماعي مع المشاركين الاخرين في العيادة المسرحية، وهنا يعيش المشارك مسافتان ذهنية وعاطفية على حد سواء، يبدا بالذهني، فيها يتجاوز المشارك ما هو سليي من الافكار النمطية في حياته، بوساطة التفكير الابتكاري البسيط وليس المعقد، بعدها يتم الانتقال الى المسافة العاطفية، التي تتمثل في لذة التمثيل التي تعزز لديه الثقة، كلا المسافتين - الذهنية والعاطفية - تتطلبان مسافة أسلوبية مع الواقع تبتعد عن المتراكم منه في ذاكرة المستفيد، وتقترب من الجديد بصرياً وسمعياً وحركياً، ليكون في التكرار اليومي للتمارين، خبرة مسرحية ذات طابع سلوكي جديد يشعر به المشارك ويتفاعل معه، وهنا تتحقق لدى المشاركين المسافة الجمالية في بعديها الذهني والعاطفي، وهو ما يميز أداء الممثل في العيادة المسرحية .